[مسألتان]

إخوتي!

لقد أُخطِرتْ إلى قلبي في هذه الأيام مسألتان: إحداهما تخص طلاب النور والأخرى تخص أهل الدنيا. فأكتبهما لكم لأهميتهما.

المسألة الأولى: [أمارتان على حسن الخاتمة]

إن هناك بشارات سامية وقوية -في الشعاع الأول- حول دخول طلاب النور الصادقين الأوفياء القبرَ بحسن الخاتمة، وأنهم سيكونون من أهل الجنة.

كنت أنتظر منذ مدة، دليلا قويا يُسند هذه المسألة العظيمة جدا، وهذه البشارة الكبرى. فلله الحمد والمنة خطرت أمارتان دفعة واحدة على القلب.

الأمارة الأولى: لقد قضى أهل الكشف والتحقيق أن الإيمان التحقيقي كلما ارتقى من علم اليقين إلى حق اليقين يستعصي على السلب، فلا يُسلَب. وقالوا: إن الشيطان لا يستطيع أن يورث أحدا في سكرات الموت إلّا إلقاء الشبهات بوساوسه إلى العقل فحسب. أما هذا النوع من الإيمان التحقيقي، فلا يتوقف في حدود العقل فحسب، بل يسرى إلى القلب وإلى الروح وإلى السر وإلى لطائف أخرى، فيترسخ فيها رسوخا قويا بحيث لا تصل يد الشيطان إليها أبدا. فإيمان أمثال هؤلاء مصون من الزوال بإذن الله.

إن إحدى طرق الوصول إلى هذا الإيمان التحقيقي هو بلوغ الحقيقة بالولاية الكاملة بالكشف والشهود، وهذا الطريق إيمان شهودي يخص أخصّ الخواص.

أما الطريق الثاني فهو تصديق الحقائق الإيمانية بعلم اليقين البالغِ درجة البداهة والضرورة، وبقوة تبلغ درجة حق اليقين، وذلك بفيض سر من أسرار الوحي الإلهي من جهة الإيمان بالغيب وبطراز برهاني وقرآني يمتزج فيه العقل والقلب معا.

فهذا الطريق الثاني هو أساسُ رسائل النور، وخميرتُها، وروحُها وحقيقتها. نعم، إن طلابها الخواص يشاهدون ذلك، بل إذا ما نظر الآخرون أيضا بإنصاف فإنهم يرون أن رسائل النور تبين استحالة الطرق المخالفة للحقائق الإيمانية، وأنها غير ممكنة وممتنعة.

الأمارة الثانية: إن دعوات خالصة كثيرة جدا ومقبولة تُرفع دوما ليُرزَق طلاب النور الصادقون حسن الخاتمة واكتساب الإيمان الكامل. فهي دعوات كثيرة إلى درجةٍ لا يجد العقلُ مجالا لعدم قبول أيٍّ من في تلك الأدعية.

فمثلا: إن خادما لرسائل النور وطالبا من طلابها يدعو خلال أربع وعشرين ساعة مائة مرة لحسن خاتمة طلاب النور ونيلهم السعادة الأبدية، ويدعو خلال تلك الأدعية ما يقرب من ثلاثين مرة على الأقل في اليوم الواحد، لسلامة إيمانهم وحسن عقباهم ودخولهم القبر بإيمان. فهو يدعو بتلك الأدعية ضمن أكثر الشروط استجابة وقبولا للدعاء.

ثم إن مجموعة الأدعية المرفوعة من قبل الطلاب أنفسهم، وهم يتعرضون -من حيث الإيمان- في هذا الزمان للهجمات من جميع الجهات. تلك الأدعية التي يدعو بها كلٌّ لإخوته الآخرين، والتي يلهجون بها بألسنتهم البريئة لسلامة إيمانهم وإيمان إخوتهم.. أقول إن مجموع تلك الأدعية قوية إلى درجة لا تردّها رحمةُ الرحمن العظيمة وحكمتُه الواسعة. فلو اُفترض ردّ جميع تلك الأدعية وقبول دعاء واحد منها، لكفاه قبولا لدخول كل طالب من الطلاب القبرَ بسلامة الإيمان، ذلك لأن كل دعاءٍ يُرفع من قِبَلهم هو دعاء متوجه إلى الجميع.

المسألة الثانية: [حكمة انهزام الدولة العثمانية]

لقد ظهر في الوقت الحاضر جزء من جواب سعيد القديم الناطق باسم هذا العصر عن السؤال الذي أورده مجلس مثالي روحاني يتشاورون فيما بينهم مصير العالم الإسلامي، وذلك في «حوار في رؤيا» المنشور في كتاب «السانحات» والمطبوع قبل عشرين سنة.

فقد قال ذلك المجلس المعنوي في ذلك الوقت: ما الحكمة في انهزام الدولة العثمانية في هذه الحرب التي انتهت باندحار الألمان؟

وقال سعيد القديم جوابا: لو كنا منتصرين لكنّا نضحي بكثير من المقدسات الدينية في سبيل الحضارة الأوروبية -كما ضُحِّيَت بها بعد سبع سنوات- ولكانت تُطبَّق بالقوة والإكراه وبسهولة تامة النظام المطبق في الأناضول في العالم الإسلامي، ولاسيما في الحرمين الشريفين ويعمم باسم المدنية الأوروبية. ولهذا سمح القدرُ الإلهي بانهزامنا في الحرب بفضل العناية الإلهية حفاظا على تلك الأماكن المباركة.

وبعد مرور عشرين سنة على هذا الجواب تماما سُئلت أيضا في الليل، كالذي في الحوار؛ في الوقت الذي هناك منبع عظبم لنصر سياسي في الأوساط الدولية، وهو البقاء على الحياد و استرجاع المُلك الضائع، وإنقاذ مصر والهند وجلبهما إلى الاتحاد معنا، فما الحكمة من اختفاء هذا المنبع العظيم عن أنظار هؤلاء الأذكياء بل الدهاة حتى سلكوا طريقا ضارا فانحازوا إلى عدو مشكوك في أمره (الإنكليز) مضطرب لا يوثَق به ولا فائدة ولا جدوى من الانحياز إليه.

سئلتُ هذا السؤال، وكان الجواب الوارد من جانب معنوي هو أن الجواب الذي أجبته عن سؤال معنوي قبل عشرين سنة، هو جواب هذا السؤال بالذات أي:

إذا ما التُزم جانب الغالب المنتصر لكان النظام المطبق هنا يُطبَّق في العالم الإسلامي والأماكن المقدسة، ويُنفَّذ هناك باسم المدنية الدنية، ضمن نشوة الانتصار، دونما مقاومة تُذكر. فلأجل سلامة ثلاثمائة وخمسين مليونا من المسلمين، لم يروا هذا الخطأ الظاهر فتصرفوا تصرف العميان.

* * *

[نتائج دنيوية في العمل للنور]

إخوتي الأعزاء الصادقين!

أهنئكم بالعيد السعيد وأثمّن خدماتكم الجليلة وأدعوه تعالى أن يوفقكم فيها، وأشكر خالقي الرحيم شكرا لا يتناهى إذ جعل من إخوة ثابتين مضحين من أمثالكم مالكين لرسائل النور وناشرين لها. فكلما تذكرتُكم امتلأتْ روحي انشراحا وقلبي فرحا، فلا تكون مغادرتي الدنيا موضع أسف، بل أنظر إلى الموت كصديق، لدوام حياتي ببقائكم أنتم، فأنتظر أجَلي دون قلق واضطراب. ليرضَ الله عنكم أبدا… آمين. آمين.

مثلما يَشعر أغلب العاملين من طلاب رسائل النور نوعا من الكرامة والإكرام الإلهيين، يَشعر أخوكم هذا العاجز بأغلب أنواعها وأنماطها، وذلك لشدة حاجته إليها.

وطلابُ النور الموجودون في هذه المناطق يعترفون مُقسمين بالله: أننا كلما انشغلنا في خدمة النور وجدنا السعة في المعيشة والانشراح في القلب، وفرحا غامرا يملأ كياننا. إنني كذلك أشعر بهذا في كياني كله شعورا تاما بحيث تسكت نفسي الأمارة وشيطاني أيضا بحيرة أمام تلك البداهة.

* * *

[الدعاء الشامل]

اعلموا أنني منذ أكثر من سنة أضم في دعائي كلَّ أقرباء طلاب النور المنشغلين برسائل النور من أزواج وأولاد ووالدين. وإن سبب ذلك هو انخراط بعض الأشخاص في دائرة النور مع عوائلهم وأولادهم ومتعلقاتهم.

* * *

[أجدى عمل في الوقت الحاضر]

لقد أنزلت العدالةُ الإلهية بالمدنية الدنيّة التي أهانت الإسلام عذابا أليما ومعنويا أرداها إلى درك الوحوش الجاهلين. فلقد أزالت تلك المخاوفُ المستمرة ملذاتِ وأذواقَ مدنية أوروبا والإنكليز مائة سنة وطيّرت منهم نشوتَهم من الرقي والتسلط على رقاب الآخرين ونشوة الاستيلاء عليهم.

فلقد أذاقتهم العدالة الإلهية ذلك الخوفَ الرهيب، وقذفت على رؤوسهم قنابل الرعب والرهبة والقلق والاضطراب.

إن ألزمَ شيءٍ في مثل هذا الوقت وأجدى عمل وأجدر وظيفة هو إنقاذ الإيمان…

نعم، إن إيمان شخص واحد إنما هو مفتاح ونور لعالم أبدي خالد أوسع من هذه الدنيا. ولهذا فإن رسائل النور تُكسب المتعرضَ إيمانُه للهلاك ملكا أعظم من هذه الكرة الأرضية، وتورثه سلطنة أجدى منها، وتمنحه فتوحات أعظم منها..

* * *

[وظيفة المنتسب إلى رسائل النور]

حادثة تبين كرامة من كرامات رسائل النور لدى استنساخها حوالينا:

طالب للنور وهو شيخ وقور جادّ في عمله، كان يكتب رسالة «الشيوخ». ولما بلغ أواخر الرجاء الحادي عشر، ولدى ذكر وفاة المرحوم «عبد الرحمن» كتب قلمه «لا اله إلّا هو» ونطق لسانه «لا اله إلّا الله» فختم صحيفة حياته بالحسنى، مصدّقا البشارة الإشارية القرآنية بأن طلاب النور تُختم حياتهم بالحسنى ويدخلون القبر بالإيمان. رحمة الله عليه رحمة واسعة.

تنبيه مهم لإخوتي في الآخرة:

يضم هذا التنبيه مادتين:

أولاها: أن أهم وظيفة للمنتسب إلى رسائل النور، كتابتها، ودعوة الآخرين إلى كتابتها، وتعزيز انتشارها؛ فالذي يكتبها أو يستكتبها، يكسب عنوان «طالب رسائل النور»، فيغنم بهذا العنوان حظًا من مكتسباتي المعنوية، ومن دعواتي الخيرة وتضرعاتي التي أدعوها كل أربع وعشرين ساعة بمائة مرة بل تزيد أحياناً. فضلاً عن ذلك يكسب حظاً من مكتسبات معنوية لألوف من إخواني البررة ومن دعواتهم الطيبة التي يدعون الله بها.

وعلاوة على ذلك فإنه بكتابته الرسائل التي هي بمثابة أربعة أنواع من عبادة مقبولة يكسبها بأربعة وجوه.. إذ يقوّي إيمانَه.. ويسعى لإنقاذ إيمان غيره من المهالك.. وينال التفكر الإيماني الذي يكون بمثابة عبادة سنة أحياناً كما ورد في الأثر ويدفع غيره إلى هذا التفكر.. ويشترك في حسنات أستاذه الذي لا يجيد الخط ويقاسي من الأوضاع الشديدة ما يقاسي بمعاونته له.. نعم، يستطيع أن يكسب أمثال هذه الفوائد الجليلة.

إني أقسم بالله أن الذي يكتب رسالة صغيرة لنفسه عن فهمٍ، فكأنما يقدم هدية عظيمة لي. بل كل صحيفة منها تجعلني في امتنان، كما لو تهدى إليّ أوقية من السكر.

المادة الثانية: وا أسفا، إن أعداء رسائل النور من الجن والإنس المارقين الذين لا يؤمنون ولا يؤمَنون يحاولون أن ينـزلوا ضرباتهم الخبيثة الشيطانية بدسائس خفية جدا ووسائل متسترة، لعجزهم عن صدّ قلاع رسائل النور المتينة كالفولاذ وحججها القوية قوة السيوف الألماسية، وذلك لتثبيط همم الكُتّاب والمستنسخين من حيث لا يشعرون وبثِّ الفتور في هممهم وحملِهم على التخلي عن الكتابة. والكتّاب قليلون جدا -ولاسيما هنا- مع شدة الحاجة إليهم، وشدة مراقبة الأعداء المتربصين. وحيث أن قسما من الطلاب لا يستطيعون الصمود، فإنهم يُحرِمون -إلى حد ما- هذه البلدة من تلك الأنوار.

فمن يرغب في محاورتى ومجالستي ومقابلتي في مشرب الحقيقة ما إن يفتح أية رسالة كانت، فإنه لا يقابلني بل يقابل أستاذه الخادم للقرآن. ويستطيع أن يتلقى بذوق خالص درسا في حقائق الإيمان.

* * *

[مسألتان دقيقتان]

أكتب إليكم مسألتين دقيقتين وردتا بتنبيه معنوي.

المسألة الأولى: [ما تولده سذاجة المسلمين]

لقد ورد في التنبيه سببان خاصان في عدم استجابة الدعوات الكثيرة -المرفوعة في شهر رمضان الفائتِ لسلامة أهل السنة والجماعة ونجاتهم- استجابة جلية في الوقت الحاضر.

السبب الأول: أن خاصية هذا العصر العجيبة هي غلو المسلمين في السذاجة وتسامحهم وتجاوزهم عن خطيئات جناة رهيبين، إذ لو رأى أحدُهم حسنة واحدة من شخص ارتكب ألوف السيئات وتعدّى على حقوق ألوف العباد، سواء على حقوقهم المعنوية أو المادية، ينحاز إلى ذلك الظالم لأجل تلك الحسنة الواحدة. وبهذه الصورة يشكّل أهلُ الضلالة والطغيان الأكثرية العظمى من الناس رغم أنهم قلة قليلة جدا، وذلك لموالاة أولئك السذج لهم، ولأجله يُنـزل القدرُ الإلهي المصيبةَ العامة التي تترتب وتنبني على خطأ الأكثرية. بل إن عملهم هذا يُعين على دوام المصيبة واستمرارها، بل على شدّتها. حتى يقولوا هم بأنفسهم: نعم، نحن نستحق هذه المصيبة.

نعم، إن من يعرف قيمة الألماس -كالإيمان والآخرة- ثم يرجّح عليه قطعا من الزجاج -كالدنيا والمال- لضرورة قطعية، فله رخصة شرعية. إلّا أن تفضيله هذا إن كان ناشئا من حاجة بسيطة جدا أو من خوف جزئي، أو من هوى متّبع أو من طمع، فهو خسران بجهالة وبلاهة يستحق لطمة تأديب عليها.

ثم إن التجاوز عن السيئات والعفو والصفح إنما يكون عن حقوق الشخص نفسه. أي له أن يعفو ويصفح عمن تعدّى على حقوقه وليس له العفو والسماح عن الذي يهضم حقوق الآخرين من الجناة والطغاة. إذ يكون شريكا معهم في ظلمهم.

السبب الثاني: لم يؤذن لكتابته.

المسألة الثانية: [تأويل بشرى]

إخوتي!

إن تأويلات الروايات الواردة حول أحداث الساعة المدوّنة في سجن «أسكي شهر» على الرغم من ظهور صدقها وتطابقها، فإن عدم معرفة أهل العلم وأهل الإيمان لتلك التأويلات وعدم مشاهدتهم لها دفعني إلى مباشرة كتابة إيضاح بشأنها وبيانِ الحكمة فيها، وعزمت على ذلك، وكتبتُ ما يقرب من صحيفتين فعلا. ثم أُسدل الستار أمامي، فتأخر البحث.

ففي غضون هذه السنين الخمس توجهتُ إليها ست مرات وكلما توجهت لكتابتها لم أوفّق. إلّا أنه أُخطر على قلبي بيان حادثة تخصني تُعدّ من فرعيات تلك المسألة وهي:

أنني كنت أبشر الناس بأمل قوي وعقيدة جازمة بأنني أرى نورا في المستقبل وأرى ضياءً في الأيام المقبلة، أبشرهم بهذه البشرى لأجل إزالة اليأس المخيّم على أهل الإيمان في بداية عهد الحرية، وقبل ظهور رسائل النور بمدة مديدة. حتى كنت أبشر بها طلابى قبل عهد الحرية. وكنت أصمد أمام الحادثات الرهيبة ببوارق تلك البشرى، كما في رسالة «السانحات»، مثلما ذكره «عبد الرحمن» فيما كتبه من تاريخ الحياة وكنت أتصور ذلك النور-كالآخرين- في محيط واسع وفي دائرة عظمى في عالم السياسة وفي الحياة الاجتماعية الإسلامية. ولكن أحداث العالم كانت تكذّبني وتخيّب أملي الحَسَن في تلك البشرى السارة عن المستقبل.

وعلى حين غرة وردت خاطرةٌ على قلبي أورثت الطمأنينة التامة والقناعة الكاملة وبقطعية تامة. فقد قيل لي: «إن تأويل بشاراتك وإخبارك منذ مدة برؤية نور -والتي كنتَ ترتبط بها بعلاقة جادة وتكررها- وتفسيرها وتعبيرها بحقكم بل بحق عالم الإسلام من حيث الإيمان هو رسائل النور، فهي ضياء، حيث أخذتْ جلّ اهتمامك، بل هي نور ومقدمة وبشرى لما كنتَ تتخيله وتظنه في دائرة واسعة وفي عالم السياسة ولما سيأتي من حالات سعيدة متّسمة بالدين. هذا النور المعجّل تصورتَه تلك السعادةَ المؤجلة فكنتَ تبحث عنه لدى باب السياسة».

نعم، لقد شعرتَ بهذا قبل ثلاثين سنة بحسّ مسبق، فقد كنتَ كمن ينظر إلى موضع أسود من خلال ستار أحمر فكنتَ ترى اللون أحمر. إذن فما شاهدتَه من نورٍ صدقٌ وصواب، ولكن طبّقتَه بشكل خطأ، فقد خدعَتك فتنةُ السياسة.

* * *

[مهمة رسائل النور]

إن رسائل النور لا تعمّر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتا صغيرا مهدما، بل تعمّر أيضا تخريبات عامة كلية، وترمم قلعة عظيمة -صخورها كالجبال- تحتضن الإسلام وتحيط به. وهي لا تسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معين بل تسعى أيضا -وبيدها إعجاز القرآن- لمداواة القلب العام المجروح، وضماد الأفكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هُيئت لها ورُكّمت منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجّه نحو الفساد نتيجةَ تحطُّم الأسس الإسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع ولا سيما عوام المؤمنين. نعم، إنها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدويةِ إعجاز القرآن والإيمان.

فأمام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشقوق الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة وأعتدة مجهّزة بدرجة حق اليقين وبقوة الجبال ورسوخها، ووجودُ أدوية مجرّبة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق (مضاد للسموم) ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لا حدّ لها.

فرسائل النور النابعة من الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، تؤدي هذه المهمة وفي هذا الوقت أتم أداء، وتحظى في الوقت نفسه بكونها مدار انكشاف لمراتبَ غير محدودة للإيمان ومصدر رقي في مدارجه السامية غير المتناهية.

وعلى هذا المنوال جرت مكالمة طويلة، فسمعتُها كاملة، وشكرت الله كثيرا. أجملتها لكم. ولمناسبة هذه الحادثة أُبيّن لكم حادثة وردت على خاطري في هذه الأيام:

عندما كنت أذكر كلمة التوحيد في ختام أذكار الصلاة ثلاثا وثلاثين مرة وردت هذه الخاطرة على قلبي: أن ساعة التفكر المذكورة في الحديث الشريف: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» موجودة في رسائل النور، فاسعَ للعثور عليها وامتلاكها…

* * *

[نتائج الاهتمام بالأخبار السياسية]

جواب الأستاذ حول سؤال أورده كل من «أمين» و«فيضي»

سؤال: إنكم تذكرون في جوابكم: أن من يتابع بلهفةٍ الحوادثَ الجارية في الأوساط السياسية الواسعة يتضرر من حيث وظائفه في الدوائر الصغيرة الخاصة.. نرجو إيضاحا لهذا؟

يقول أستاذنا:

الجواب: نعم، إن من يولي اهتماما بالغا في هذا الوقت بالصراعات الدائرة في الكرة الأرضية ويتابعها بلهفة وفضول بوساطة الراديو، تلحقه أضرارٌ مادية ومعنوية كثيرة جدا؛ فإما أنه يشتت عقلَه ويصبح أبلها -روحا ومعنى- وإما أنه يشتت قلبَه فيكون ملحدا روحا ومعنىً، وإما أنه يشتت فكره فيغدو أجنبيا روحا ومعنى.

نعم، إني شاهدت رجلا من العوام صاحب تقوى ودين -وآخر ينتسب إلى العلم- قد حزن حزنا شديدا لحد البكاء لانهزام كافرٍ عدوٍ للإسلام منذ القدم، وذلك لكثرة اهتمامه بما لا يعنيه، وفي الوقت نفسه سُرّ سرورا بالغا من تقهقر جماعة السادة من أهل البيت تجاه كافر عنيد!

أليس هذا أعجب مثال للجنون وتشتت العقل، أن يفضّل رجل عامي يتعلق عقلُه بدائرة السياسة الواسعة كافرا عدوا لدودا للإسلام على مجاهد سيد من أهل البيت؟

نعم، إن مسائل السياسة تتعلق -إلى حدٍ ما- بوظيفة العاملين في الشؤون الخارجية وأركان الحرب في الجيش والقادة المسؤولين. أما دفع تلك المسائل إلى رجل عامي ساذج وإثارته بها، وصرفه عما يلزمه من وظائف تجاه شؤون روحه وأمور دينه، بل حتى تجاه شؤونه الشخصية بالذات ولوازم بيته وقريته، ومن ثم جَعله بهذا التلهف والفضول سائبَ الروح، ثرثار العقل، فاقدا لأذواق القلب نحو الحقائق الإيمانية والإسلامية، خائر الشوق إليها.. وكذا إثارة العوام بتلك الاهتمامات التافهة التي تقتل قلوبهم معنىً -بما يشبه تهيئة الجو الملائم للإلحاد- ودفعهم إلى استماع الراديو في شؤون سياسية لا تعنيهم في شيء… أقول: إن كل ذلك لضرر بالغ للحياة الاجتماعية الإسلامية بحيث إن الإنسان كلما فكر بنتائجها الوخيمة المترتبة عليها يقشعر من هولها جلده، ويقف شعره!

نعم، إن كل إنسان له علاقه بوطنه وقومه وحكومته، ولكن من الخطأ الجسيم جَعْل منافع الأمة ومصلحة الوطن والحكومة تابعةً لسياسة مؤقتة لبعض الأشخاص انجرافا لتيارات موقتة، بل تَصوّرها نفسها.. فضلا عن أن حصة كل شخص من تلك الروح الوطنية والقومية وما تترتب عليها من وظائف إن كانت واحدة فإن حصته تجاه وظائف قلبه ومهمات روحه وواجباته الشخصية والبيتية والدينية وغيرها عشرون بل مائة حصة. لذا فإن تضحية هذه العلاقات الجادة والضرورية جدا لأجل تلك الحصة الواحدة من التيارات السياسية غير الضرورية مما لا يعنيه شيئا… أقول: إن لم يكن هذا جنونا فما هو إذن؟

هذا هو جواب أستاذنا الذي ألقاه علينا بسرعة، ونحن بدورنا كتبناه باستعجال. فنرجو غض النظر عن التقصير.

نعم، ونحن بدورنا نصدّق ما يقوله الأستاذ، لأننا قد شاهدنا ما يقوله في أنفسنا وفي أصدقائنا فعلا. حتى ترك بعضُهم صلاة الجماعة -وربما الصلاة نفسها- لأجل الاستماع إلى الراديو الذي يذيع الأخبار في أثناء وقت الصلاة بذاته. حتى إنه باهتمامه الشديد وفضوله البالغ لمتابعة أخبار الحرب -التي هي صفعة قوية متلاحقة على المدنية الحاضرة ولسفاهتها وضلالها ولأهانتها الإسلام- وتلهّفه للشؤون السياسية الدائرة في أوساطها الواسعة تلهفا شديدا والاسترشاد في شؤونه -بالراديو- بآراء أناس تسممت نفوسُهم وحارت عقولُهم، مما أضرّ بعمله المقدس الجليل ضررا جسيما.

                 من طلاب النور   من طلاب النور

                  أمين                   فيضي

* * *

[فساد الهواء المعنوي وعلاجه]

كنت أرى في نفسي وفي طلاب النور القريبين من هنا رهقا، وفتورا في الشوق، بعد انقضاء الأشهر الحرم. ولم أكن أفهم سبب ذلك بوضوح إلّا الآن حيث رأيت أن ما قلته -ظنا- من سبب إنما هو حقيقة. وهي:

كما أن الهواء يؤثر تأثيرا سيئا إن كان فاسدا -فسادا ماديا- كذلك الهواء المعنوي إذا ما فسد -فسادا معنويا- فإنه يؤثر تأثيرا سيئا في كل شخص وحسب استعداده. إنّ توجّه المؤمنين عامة وإقبالهم الجاد في الشهور الثلاثة إلى كسب مغانم أخروية والفوزِ في تجارتها، يصفّي الهواء المعنوي للعالم الإسلامي عامة وينقيه ويجمّله. حتى يتمكن من الصمود تجاه الآفات المهلكة والبلايا الرهيبة. فكل مؤمن يستفيد من ذلك الهواء الصافي الجميل حسب درجته.

ولكن بعد مضي الشهور المباركة تتبدل أوضاعُ السوق الأخروية، وتتفتح أبواب السوق الدنيوية، فيعتري الهممَ والتوجهاتِ شيءٌ من التغير والتبدل، إذ الأبخرة تسمّم الهواء المتصاعد من الأمور التافهة السخيفة، وتفسد ذلك الهواء الجميل. فيتضرر بدوره كلُّ مؤمن حسب درجته.

وعلاج هذا الداء والنجاة منه هو أنه ينبغي النظر إلى الأمور بمنظار رسائل النور، والسعي في الخدمة السامية بجد أكثر وشوق أعظم كلما ازدادت المشكلات. لأن فتور الآخرين وتخلّيهم عن الخدمة مدعاةٌ لإثارة غيرة أهل الهمة وتحفيز شوقهم، إذ يجد نفسه مضطرا إلى حمل شيء من أعبائهم ومهماتهم، بل ينبغي له ذلك.

* * *

[الذنوب في آخر الزمان]

مسألة أُخطرت على القلب فجأة: هناك روايات حول التضخم الرهيب لذنوب المرء في آخر الزمان. فكنت أفكر: هل يمكن أن يرتكب إنسان أضعاف ما يرتكبه شخص واحد من الخطايا والذنوب بألوف المرات؟ ترى أي ذنوب هذه -المجهولة لدينا- حتى تتعرّض للموجودات وتمس الكون فتثير غضبَه وتزيد حدّته، بل تسبب قيام الساعة ودمار
العالم عليهم؟

وها قد رأينا أسبابها المتعددة في الوقت الحاضر:

فمثلا: لقد فُهم من وجوهها المتعددة، بجهاز الراديو الموجود لدي. حيث إن شخصا واحدا يرتكب مليونا من الكبائر دفعةً واحدة بكلمة واحدة يتفوه بها في الراديو، فيُقحم ملايين المستمعين له في الذنوب.

نعم، إن جهاز الراديو ينطق بلسان واحد، إلّا أنه يدفع مئات الألوف من الكلمات في الهواء دفعة واحدة. فبينما ينبغي أن يَملأ هذا الجهاز -الذي هو نعمة إلهية عظمى- ذراتِ الهواء قاطبة، بالحمد والثناء والشكر لله سبحانه وتعالى، إلّا أن سفاهة البشر المتولدة من الضلالة تستعمل هذا الجهاز بما يخالف الشكر والحمد لله. فلا جرم أنه سيعاقب عليها.

نعم، إن المدنية الدنيّة الظالمة قد عوقبت، بكفرانها بالنعمة الإلهية وعدم إيفائها الشكر لله، تجاه ما أنعم عليها سبحانه من الخوارق الحضارية، لصرفها تلك الخوارق إلى الدمار حتى سلبت سعادة الحياة كليا وأردت الناسَ الذين يُعدّون في ذروة الحضارة والمدنية إلى أدنى من دركات الوحوش الضالة، وأذَاقَتهم عذاب جهنم قبل الذهاب إليها.

نعم، إن كون جهاز الراديو نعمة إلهية كلية يقتضي شكرا كليا، ولا يكون ذلك الشكر الكلي إلّا بتلاوته القرآن الكريم باستمرار، كي يوصل إلى مخاطبيه الحاليين دفعة واحدة ذلك الكلامَ الأزلي الصادر من خالق السماوات والأرض، فيصبح كمقرئ سماوي حافظ للقرآن الكريم يملك ألوف الألوف من الألسنة. وبهذا يكون قد أدّى ما عليه من مهمة الشكر والحمد لله، فيديم في الوقت نفسه تلك النعمة المهداة.

* * *

[هل حفظ القرآن أفضل أم استنساخ الرسائل؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن نشاطكم وجهودكم بما يفوق آمالي، ستجعلني في شكر وامتنان لله تعالى إلى آخر رمق من حياتي..

وقد ورد سؤال في رسالتكم هذه المرة: هل حفظ القرآن الكريم أفضل أم استنساخ رسائل النور؟

إن جواب سؤالكم هذا بدهي، لأن أعظم مقام في هذا الكون وفي كل عصر هو للقرآن الكريم. وإن تلاوته وحفظه يفضُل أي عمل آخر ويتقدّم عليه، حيث إن لكل حرف منه حسناتٍ تتراوح من العشرة إلى الألوف.

ولكن لأن رسائل النور براهينُ لحقائق القرآن العظيم الإيمانية وحججه، ولكونها وسيلة إلى حفظ القرآن الكريم وتلاوته، ومفسّرة لحقائقه وموضّحة لها، ينبغي السعي لها أيضا جنبا إلى جنبِ حفظِ القرآن الكريم.

* * *