[الفرق بين الإيمان وعدم الإنكار]

إخوتي الأعزاء الصادقين الأوفياء، والأبطال الميامين لطلاب النور!

لقد أشاعوا: «أن الناس يعرفون الله، فالشخص الاعتيادي يؤمن بالله كما يؤمن به وليّ من الصالحين». لأجل التهوين -ولو يسيرا- من قيمة رسائل النور العظيمة. وذلك ببيان عدم الحاجة إلى المزيد من حشد البراهين الدامغة والدلائل القيمة الضرورية التي تسوقها رسائل النور وتُكثر منها. وكأن هذه الحشود من البراهين الإيمانية لا ضرورة لها، ولا داعي لها.

ففي إسطنبول يروِّج -وبأسلوب رهيب جدا- قسمٌ من المنافقين الذين تورطوا في الكفر المطلق -المشحون بالفوضوية والإرهاب- كلاما من هذا القبيل فيقولون: «لا داعي لنا لمزيد من دروس الإيمان لأن كل أمة بل الناس جميعا يعرفون الله». وذلك محاولةً منهم لصدّ رسائل النور وحرمان الناس من الحقائق الإيمانية التي فيها، التي يحتاجها الناس كلهم حاجتهم إلى الماء والخبز.

والحال أن معرفة الله سبحانه والإيمانَ بحقائق «لا إله الّا الله»، يستلزم التصديق القلبي، والإيمان المطلق الجازم بربوبيته سبحانه وتعالى، الشاملة المحيطة بكل ما في الكون، وأن مقاليد الأمور -من الذرات إلى المجرات- بجزئياتها وكلياتها في قبضته سبحانه، ولا تُدار إلّا بقدرته، وتحت إرادته، فلا شريك له في ملكه.

أما النطق والتفوه بأن «الله موجود» ثم إسناد تصريف الأمور في ملكه إلى الأسباب التي لا عدّ لها وإلى «الطبيعة» واتخاذَها شركاء لله تعالى، ومن ثم الجهل بإرادته النافذة، وعلمه المطلق، ومثولِ كل شيء بين يديه، فضلا عن عدم الاهتمام بأوامره ونواهيه، والجهلِ بصفاته الجليلة، وما أرسل من رسله.. لا شك أن هذا كله ليس من الإيمان في شيء.

ولا ينطق بهذا ناطق إلّا ليسلّي به نفسه وينجيها من التعذيب الدنيوي الروحي الذي يعذِّب به الكفرُ المطلق أصحابَه في الدنيا قبل الآخرة.

نعم، إن «عدم الإنكار» شيء و«الإيمان» شيء آخر تماما، إذ ما من ذي حس أو شعور يمكنه أن ينكر الخالق ذا الجلال الذي تشهد بربوبيته وعظمته وحكمته وجماله جميعُ أجزاء الكون.. فلو حاول الإنكار لحال دونه الكونُ بأجمعه، فيخرس، ويبقى وحيدا سائبا معزولا شاردا دون سند.

أما الإيمان، فلقد علَّمَنا القرآن الكريم أنه التصديق القلبي بوجود الخالق جل وعلا بصفاته المقدسة وبأسمائه الحسنى، مستندا إلى شهادة الكون جميعا.

إنه -أي الإيمان- تطبيق لما جاء به الرسل الكرام -عليهم السلام- من أوامره سبحانه وتعالى ونواهيه..

وإذا سوّلتْ للإنسان نفسُه أمرا، فدونه باب الاستغفار والإنابة.. أما أن يقترف كبيرة من الكبائر بلا اهتمام ولا مبالاة بالأوامر، ودون استغفار وإنابة، فلا شك أن ذلك دليل خلوه من الإيمان.

* * *

[حول محبة آل البيت]

أخي العزيز المحترم

لقد قرأت باهتمام وإنعامِ نظر رسالتكم المستفيضة التي هي بمثابة بحث كامل، والغزيرة بالعلم ودقة الملاحظة وحرارة الشوق، فأقول مقدَّما:

إن الإمام عليا رضي الله عنه هو أستاذ رسائل النور، وهو الذي يولي اهتماما بالغا برسائل النور في قصيدته «البديعية» بإشارات رمزية، وهو أستاذي الخاص في الحقائق الإيمانية.

وإن محبة آل البيت قد نصّ عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَٓا اَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ اَجْرًا اِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبٰى (الشورى:23). هذه المحبة أساسٌ في مسلكنا وفي رسائل النور. ويلزم ألّا يكون لدى الطلاب الحقيقيين لرسائل النور أيُّ ميل نحو معاداتها. فالضلالةُ والزندقة تستغل الاختلاف في هذا العصر، حتى إن هناك تيارات قوية تجعل أهلَ الإيمان في حيرة من أمرهم حيث تُبدَّل الشعائر الإسلامية ويُشنُّ هجومٌ عنيف على القرآن والإيمان، لذا لا ينبغي فتح باب المناقشة في الأمور الفرعية الجزئية التي تسبب الاختلاف إزاء هذا العدو اللدود.

وكذا لا يلزم قطعا ذم الذين ارتحلوا وذهبوا إلى الآخرة ودار الجزاء. فليس من مقتضى محبة آل البيت -الذين أُمِرنا بحبهم- بيانُ تقصيرات أولئك بيانا لا جدوى منه بل فيه ضرر.. لأجل كل هذا فقد مَنع أهلُ السنة والجماعة مناقشةَ الفتن التي وقعت زمن الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

ولاشتراك الذين بُشّروا بالجنة كالزبير وطلحة وكذلك أُمنا عائشة الصديقة رضي الله عنهم أجمعين في واقعة الجمل، فقد حكم أهلُ السنة والجماعة على تلك الواقعة؛ أنها نتيجة الاجتهاد، وأن سيدنا عليا رضي الله عنه كان محقا وعلى صواب والآخرون ليس لهم الحق. ولكن لأن الأمر ناشئ من الاجتهاد فهم معفوّ عنهم. ثم إنهم -أي أهل السنة والجماعة- يرون أن مناقشة أمر البُغاة في حرب صفّين فيها ضرر، إذ تثير المناقشةُ نزعتين متضادتين هما: نزعة تقف ضد محبة آل البيت، وأخرى تغلو في حبهم «كالرافضة» فيتضرر الإسلام نتيجة ذلك.

لقد قال إمام علم الكلام سعد الدين التفتازاني أنه: «يجوز لعن يزيد» وأمثالِه من الظالمين كالحَجاج والوليد. ولكن لم يقل: إن «اللعن واجب، أو فيه خير وفضيلة، أو فيه ثواب وأجر» لأن الذين ينكرون القرآن الكريم ويجحدون بالرسول ﷺ ويرفضون صحبة الصحابة الكرام للرسول ﷺ كثيرون جدا لا يعدّون ولا يحصون، وهم يصولون ويجولون أمامنا.

ومن المعلوم شرعا أن المرء إن لم يتذكر أحدا من الذين يستحقون اللعنة ولم يلعنهم فليس في هذا بأس قط، لأن الذم واللعنة ليسا كالمدح والمحبة، فهما لا يَدخلان في الأعمال الصالحة، وإن كان فيهما ضرر فهو أدهى.

وفي الوقت الحاضر، استغل المنافقون بعض العلماء فأثاروا فيهم نزعة -ضد أهل البيت- علما أن العلماء هـم المأمـورون بالحـفـاظ على الإسلام والحقائق الإيمانية، حتى وصل بهم الأمر إلى مهاجمة أهل الحقيقة واتهامِهم بانتحالهم نزعة التشيّع، ونشب العداءُ بينهما بحيث أنـزل أولئـك المنافقون ضربتهم القاضية بالجهتين معا، وذلك باستعمال كلّ منهما ضد الآخر ووضعِه في مجابهته. فهؤلاء الذين يسعون في إنزال الضربة القاضية بالإسلام ماثلون أمامنا.. وقد دوّنتَ جزءا من هذا في رسالتك وأنت تعلم يا أخي أن أخبث الوسائل المؤثرة على رسائل النور وعليّ بالذات -والمستعملة حاليا- قد وجدوها لدى العلماء.

إن بعض العلماء الذين تلوثوا بالبدع، يمكنهم أن يُنـزلوا ضربتهم بك وبطلاب النور متذرعين باجتهادكم الناشئ من محبة آل البيت، والذي لا داعي لإظهاره في الوقت الحاضر، فهؤلاء يتسترون بالوهابية الحاكمة على الحرمين الشريفين حيث تتداول فيما بينهم -منذ أمد بعيد في إسطنبول- كتب مُلفتة للأنظار وجذّابة لابن تيمية وهو من العباقرة المشهورين وتلميذه ابن قيم الجوزية، ولاسيما بعد أن أُشيع أن نزعتهم ضد الأولياء ومشربهم متّسم بشيء من التسامح للبدع!.

فمادام ليس هناك أمر شرعي في عدم الذم وفي عدم التكفير، بينما في الذم والتكفير حكمٌ شرعي. فالذم والتكفير إن كانا على غير حق ففيهما ضرر كبير. وإن كانا على حق فلا ثواب فيهما، لأن هناك مالا يُحد من الناس ممن يستحقون الذم والتكفير. أي إن عدم التكفير وعدم الذم ليس فيهما حكم شرعي وليس فيهما ضرر أيضا.

ولأجل هذه الحقيقة فقد اتخذ أهلُ الحقيقة وأهل السنة وفي مقدمتهم الأئمة الأربعة والأئمة الاثنا عشر من أهل البيت، اتخذوا لأنفسهم قاعدة سامية مستندين إلى تلك الحقيقة. فقالوا: لا يجوز مناقشة ما حدث بين المسلمين من الفتن وليس فيها نفع، بل فيها ضرر.

ثم إن هناك صحابة كراما قد وُجدوا -على أية حال- في كلّ من الطرفين، فإنّ بحث تلك الفتن يورد إلى القلب شيئا من الانحياز إلى جهة، مما يولّد اعتراضا أو رفضا لأولئك الصحابة العظام أمثال طلحة والزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة. وحتى لو كان هناك خطأ سبب للاعتراض فهناك احتمال قوي للتوبة.

إنه لا يليق قطعا بالمؤمن الحصيف ولا بوظيفته المقدسة في هذا الوقت أن يهمل الذين ينـزلون ضرباتهم القاضية بالإسلام فعلا ممن يستحقون اللعنة والذم بألوف المرات، ويذهب إلى أزمان غابرة ليتحرى في الأحوال التي لم يأمر الشرع بالتحري فيها والتي لا جدوى منها بل فيها ضرر..

أخي لا أُخفي عنك أن مناقشتكم الطفيفة مع «صبري»، لها ضرر بالغ برسائل النور وبانتشار حقائق الإيمان، فلقد شعرتُ بذلك هنا، وتألّمت من جرائها. إذ في الوقت الذي كنا ننتظر منكما خدمة إيمانية جليلة بمجيء «صبري» إليكم والذي سيكون وسيلة جادة لرسائل النور هناك، وأنت العالم المحقق؛ شعرت -بخلاف ذلك- بضرر كبير في ثلاث جهات، بل رأيتُ ذلك الضرر، وقلت: ترى ما الذي أدى إلى هذا الضرر؟ تلقيت الخبر بعد ثلاثة أيام، من أن «صبري» قد ناقشك مناقشة لا طائل من ورائها ولا فائدة يرجى منها وأنت بدورك قد أخذ منك الغضب والحدة مأخذا… فتأسفت قائلا: أواه..! ودعوت الله: اللهم يا ربنا ارفع المناقشة التي بين هذين الأخوين القادمين إلينا من أرضروم، ليكونا معاونَين لي في خدمتنا للإيمان.

وكما جاء في رسالة الإخلاص: «إن أهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضا إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى فيتركوا مؤقتا كل ما يثير الخلافات والمناقشات دفعا لعدوهم المشترك المتعدّي» لأن الكفر المطلق يشن هجوما عنيفا.

فأرجو من غيرتك الدينية، وتجاربك في حقل العلم، وعلاقتكم القوية برسائل النور، أن تسعى لنسيان ما جرى بينكم وبين «صبري». اصفحْ عنه وسامحه، لأن «صبري» لم يفكر بعقله بل بما سمع من مناقشات لا طائل من ورائها جرت بين علماء سابقين. فأنت أعلم بأن الحسنة العظيمة تكفّر عن سيئات كثيرة.

نعم، إن أخانا «صبري» قد خدم النور خدمة عظيمة حقا، وبوساطتها خَدَم الإيمانَ خدمة جليلة بحيث تكفّر عنه ألفا من أخطائه.

فأرجو أن تنظروا إلى المسألة من زاوية نجابتكم، ومن زاوية خدماته العظيمة للنور وأن تعدوه أخا رفيقا في خدمة النور.

إن قسما من الصحابة قد ظهروا في الجهة المخالفة للإمام علي في تلك الفتن نتيجةَ الأخذ بالعدالة النسبية (الإضافية) واتباعا للرخصة الشرعية بدلا من أن يكونوا مع الإمام عليٍ الذي ألزم نفسه الأخذ بالعدالة الحقيقية (المحضة) والأخذَ بالعزائم الشرعية مع مسلكه المتسم بالزهد الشديد والاستغناء عن الناس والتقشف… فأولئك الصحابة الكرام قد تركوا مسلك الإمام علي ودخلوا في الصف المخالف له نتيجة هذا الاجتهاد حتى إن «عقيل» وهو أخو الإمام علي و«ابن عباس» الملقب بحَبر الأمة كانا في الصف المخالف للإمام لفترة. ولأجل كل هذا فقد اتخذ أهلُ السنة والجماعة القاعدةَ الأساسية الشرعية وهي عدم جواز فتح أبواب تلك الفتن فقالوا: «من محاسن الشريعة سدّ أبواب الفتن»: وقد طهّر الله أيدينا فنطهر ألسنتنا. لأنه: إن كان هناك بضعة أفراد يستحقون الاعتراض عليهم، إلّا أن هذه النـزعة، نزعةَ الانحياز إلى جهة يسوق إلى الاعتراض على أجلّاء الصحابة الكرام ممن هم من العشرة المبشرين بالجنة كالطلحة والزبير رضي الله عنهم وحتى على قسم من أهل البيت ممن هم في الصف المعارض، فينتبه لدى المعترض عِرقُ العداوة والذم تجاههم. لهذا فأهل السنة يرجحون سد أبواب الفتن.

حتى إن سعد الدين التفتازاني وهو من أئمة علم الكلام وأهل السنة الذي جوّز تلعين يزيد والوليد وتضليلَهما، قد انبرى له السيد الشريف الجرجاني وهو من أجلّة علماء أهل السنة قائلا:

«مع أن يزيد والوليد فاجـران وظالمان غدّاران إلّا أن العلم بأنهما قد رحلا إلى الآخرة على غير الإيمان من أمور الغيب. ولأن هذا غيب ولا يُعلم علما قاطعا بأنهم قد تركوا الدنيا على غير الإيمان وليس لنا دليل قطعي ولا نص جازم على ذلك، وهناك احتمال التوبة وذهابِهما من الدنيا على الإيمان، فلأجل هذا لا تجوز اللعنة بمثل هذا التخصيص والتلعين الشخصي، وإنما تجوز اللعنة إذا كانت عامة كأن يقول: لعنة الله على الظالمين والمنافقين. وإلّا فلا ضرورة لغير هذا النوع من اللعنة ولا لزوم لها بل لها ضرر»…

وهكذا ردّ على سعد الدين التفتازاني.

هذا وإن سبب عدم إجابتي لرسائلك العلمية الدقيقة جوابا مفصلا والاقتصار على هذا القدر المستعجل، هو مرضي الشديد ومشاغلي المهمة.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[طهّر الله أيدينا فنطهر ألسنتنا]

أخي العزيز المحترم!

إن طرق البحث أو حتى التفكر في ذلك الجرح العميق الذي يبكي العالم الإسلامي منذ ألف وثلاثمائة سنة، والذي دفع أهلَ الحقيقة جميعا إلى إطلاق الزَفَرات والحسرات يُؤلمني ألما لا يطيقه مشربي الخاص. ولاسيما أن خدمة الإيمان خدمة حقيقية بالإخلاص -منذ عشرين سنة- قد سحبتني كليا من ميدان السياسة بكافة أنواعها، ولم تدَعني لقراءةِ جريدة واحدة طوال هذه المدة. لذا فإني أحمل -مضطرا- حالة روحية تدفعني إلى عدم الالتفات إلى الحياة السياسية وإيثار حياة الأسر المعذّب طوال عشرين سنة التي خلت. وعدم مراجعة الحكومة -سوى دفاعاتي أمام المحاكم- لئلا يردَ نقصٌ إلى خدمة الإيمان وحفاظا على الإخلاص من الانثلام، بل لم أهتم بأخبار الحرب العالمية ولم أذكّر أحدا بها طوال عشر سنوات، لئلا أتلوث بالسياسة. إن هناك ضرورة الآن إنقاذ أهل الإيمان من لدغات ثعابين ماردة تهاجمهم هجوما شرسا من حيث حقائق الإيمان وتنفث سمومَها القاتلة في الكثيرين أمام أنظارنا…

فما دام الوضع هكذا، فإن الانسلاخ من هذا الزمان الحالي والذهاب إلى عصور سابقة ومشاهدة الظلم الرهيب الواقع على أهل البيت يسحق روحي أكثر ويفتّ في القوة المعنوية ويعذّبني عذابا لا يوصف.

إن الدستور الغادر للسياسيين الظلمة الذين هو: «يُضحَّى بالفرد لأجل الجماعة» له وقائع وأحداث قاسية ظالمة تحت اسم: «أهون الشرين» الذي اتّخذه بعضُ الحكام نوعا من أنواع العدالة الإضافية (النسبية) وأبرزوه لمصلحة إدامة حكمهم. وحتى في هذا العصر بموجب هذا الدستور الغادر يفني أحدُهم قريةً كاملة بخطأِ شخص واحد فيها، ويُهلك أُلوف الناس لتوهمِ ضرر قد يَلحق بسياستهم من جراء معارضةِ عشرة أشخاص…

وحيث إن هذا الدستور الغادر للسياسة قد دخل -إلى حد ما- بين المسلمين في العصور الإسلامية، فقد آثر السلفُ الصالحون السكوت -مضطرين- أمام هذه الدساتير الرهيبة، فَسدَّ أئمةُ أهل السنة والجماعة تلك الأبواب بقولهم: «طهّر الله أيدينا فنطهّر ألسنتنا».

وما دام الذين ظلموا أهلَ البيت يرون عقابهم الآن في الآخرة عقابا أليما بما لا يدع حاجة إلى معاونتنا بالهجوم على الظَلَمة، وينال أهلُ البيت المظلومون -ثوابَ ما قاسوا من عذاب موقت- درجةً عظيمة لا تبلغها عقولُنا لسعَتها ورفعتها، فالأولى إذن تهنئتُهم بألوف التهاني من حيث نيلهم تلك الرحمة الواسعة وليس التألم لحالهم الآن. إذ مثلما أنهم حازوا ملايين المراتب والسعادات الباقية في الآخرة، مقابل بضع سنين من المتاعب والآلام، كذلك أصبح كلٌّ منهم سيدا وسلطانا معنويا وإماما في عالم الحقيقة بدلا من سلطنة دنيوية فانية في مدة حياتهم الدنيوية وحاكميتِها الموقتة وسياستِها المضطربة التي لا أهمية لها، وصاروا أئمة الأولياء والأقطاب بدلا من ولاة الولايات… ففوزهم هذا هو فوز عظيم بملايين أضعاف مراتب الدنيا.

ولأجل هذا السر الدقيق فقد أخذت الحقيقة السابقة من أساتذة سعيد الجديد وهم: الإمام الرباني، الشيخ الكيلاني، الإمام الغزالي، والإمام زين العابدين رضي الله عنهم -حيث تلقيت مناجاة «الجوشن الكبير» من هذين الإمامين خاصة- وسيدنا الحسين، والإمام علي رضي الله عنهم جميعا. فالدرس الذي تلقيتُه منهم لدى ارتباطي بهم ارتباطا معنويا دائما -بواسطة الجوشن الكبير- هو تلك الحقيقة… لذا فالمشرب الحالي الوارد من رسائل النور إذن هو مشربُهم الذي ارتشفتُه من منهلهم. لذا لا ينسجم ومشربَنا النظرُ إلى غدر الظالمين، ولا حتى التفكر فيه، حيث قد نال الظالمون عقابهم، والمظلومون ثوابهم بما هو فوق طوق عقولنا، فالانشغال بمثل تلك المسائل يُلحق الضرر بالوظيفة القرآنية التي كُلِّفْنا بها، ولاسيما والمصائب تنـزل تترى على الدين في الوقت الحاضر.

إن علماء علم الكلام وأئمة أصول الدين والمحققين الأفذاذ من علماء أهل السنة والجماعة، بعد إجراء تحقيقات وتدقيقات كثيرة حول العقائد الإسلامية وإقامة المحاكمات العقلية والموازنات في ضوء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ارتضوا بدساتيرَ في أصول الدين، تلك الدساتير تأمر بالحفاظ على مشرب رسائل النور الحالي، وتمدّها بالقوة. ومن هنا لا يستطيع أي أحد -حتى لو كان من أهل البدع وفي أي مكان كان- الاعتراضَ على مشربنا، ولما كانت حقيقةُ الإخلاص محفوظة فيه حفظا تاما يستطيع أيُّ نوع من أنواع أهل الإسلام الدخولَ في دائرة رسائل النور، فالمتعصب في تشيعه، والمغالي في وهابيته، وأشد الفلاسفة مادية وعمقا في العلم، وأكثر العلماء أنانية وتزمتا، قد بدأوا بالدخول معا في دائرة النور، ويعيش قسم منهم الآن إخوة متحابين في تلك الدائرة… حتى إن هناك أمارات بدخول مبشرين نصارى من الروحانيين الحقيقيين في تلك الدائرة، لما يشعرون بضرورة الترابط والمصالحة، طارحين مواد المناقشة والمنازعة جانبا.

بمعنى أن رسائل النور التي أخبر عنها الإمام علي رضي الله عنه بإشارات تبلغ حوالي الأربعين وبدرجة الصراحة أحيانا، هي ضماد لجروح هذا الزمان. ولهذا كفتنا تلك الدائرة فلا نخرج منها.

إن التعرض لشخص سيدنا علي كرم الله وجهه، ونقدَ حياته وسياسته الجارية على العدالة المحضة شيء، والتعرض لشخصيته المعنوية ونقدَ كمالاته العلمية ومقامِ ولايته ووراثته للنبوة، التي تفوق ألوف المرات شخصيته الظاهرية وحياته الدنيوية وسياسته الاجتماعية شيء آخر، وأَنَّى لأحد الدنو من التعرض لها أو نقدها. بل لم يرد ذلك قطعا ولن يرد.

ومن هنا يبدو رهيبا جدا تعرُّضُ الذين يحاولون الجمع بين الجهتين معا، حيث يورث الحيرة والدهشة في صفوف أهل الإيمان من أنه: هل يمكن أن تحدث فتنة كهذه بين أهل الإيمان؟ علما أنه عدا أشخاصٍ تافهين خبيثين كيزيد والوليد، فإن القسم الأعظم ممن تعرضوا للإمام علي رضي الله عنه تعرضوا لإدارته الخاصة ولحياته الإنسانية الاجتماعية، فأخطأوا، وليس لكمالاته وكراماته ووراثته للنبوة.

إن من الضروري تركَ العداء الصغير الطفيف الداخلي لدى هجوم الأعداء الضخام الخارجيين. إذ بخلاف ذلك سيكون الأمر في حكم العون للعدو الكبير الخارجي.

ولهذا فعلى المنحازين من المسلمين إلى جهة من الجهات ضمن دائرة الإسلام أن يتناسوا تلك العداوات الداخلية موقتا، كما تقتضيه مصلحة الإسلام.

* * *

  [رسالة إلى سكرتير حزب الشعب الجمهوري]

حضرة السيد حلمي أوران!

وزير الداخلية السابق وسكرتير حزب «الشعب الجمهوري» حالياً:

أولاً: في غضون عشرين سنة كتبت إليكم عريضة واحدة فقط -يوم كنتم وزيراً للداخلية- إلّا أنني لم أقدمها إليكم لئلا أخلّ بقاعدتي التي أسير وفقها. فإن شئتم فسأقرأها لكم وأتكلم معكم بصفتكم وزيراً سابقاً للداخلية وسكرتيراً عاماً للحزب. فاسمحوا لي بالكلام لساعة أو ساعتين، إذ الذي لم يتكلم مع الحكومة منذ عشرين عاماً لو تكلم عشر ساعات مع ركن من أركان الحكومة وباسمها ولمرة واحدة، فهو قليل.

ثانياً: أجدني مضطراً إلى بيانِ حقيقةٍ لكم لكونكم سكرتير الحزب حالياً… والحقيقة هي: أن هذا الحزب الذي تقوم أنت بمهمة سكرتاريته عليه مهمة أمام الشعب وهي أن الأمة التركية ومن معها من إخوة الدين الحاملين لراية الإسلام منذ ألف سنة جعلوا الأمة الإسلامية قاطبة ممتنة لها ببطولتها وصانوا الوحدة الإسلامية، ونجّوا البشرية بالقرآن العظيم وحقائق الإيمان من الكفر المطلق والضلال الرهيب. فإن لم تتبنّوا حالياً -ببسالة كالسابق- الحقائقَ القرآنية والإيمانية، وإن لم تقوموا -وأنتم أهل الغيرة- بالحث على الحقائق القرآنية والإيمانية مباشرة بدل قيامكم خطأ في عهد سابق بالدعاية للمدنية الغربية وإضعافِ الروح الدينية، فإني أحذركم وأنذركم قطعاً، وأبين ذلك بحجج قاطعة أن العالم الإسلامي سيَنفر من هذه الأمة بدلاً من أن يوليها المحبة بل سيضمر العداوة لأخيه البطل: الأمة التركية، وستقهرون أمام الفوضى والإرهاب الذي يتستر تحت ستار الكفر المطلق الذي يسعى لإبادة العالم الإسلامي، وستكونون سبباً في تشتيت هذه الأمة التركية التي هي قلعة العالم الإسلامي وجيشه البطل، وستمهدون لاستيلاء الغول الوحش (الشيوعية) على هذه البلاد.

نعم، إن هذه الأمة البطلة لا تصمد أمام صدمات التيارين الرهيبين الآتيين من الخارج إلّا بقوة القرآن. فلا يصد هذا التيارَ الجارف، تيارَ الكفر المطلق والاستبداد المطلق وإشاعةِ السفاهة وإباحة أموال الناس إلاّ الأمة التي امتزجت روحها بحقائق الإسلام وأصبحت جزءاً من كيانها، تلك الأمة التي تعتزّ بالإسلام مجداً لماضيها.

وسيوقف هذا التيارَ بإذن الله قيامُ أهل الغيرة والحمية لهذه الأمة ببث روح الحقائق القرآنية -الموغِلة في عروق هذه الأمة- وجعلِها دستور حياتها بدلاً من نشر التربية المدنية الغربية.

أما التيار الثاني: فهو استمالة العدو مستعمراتِه في العالم الإسلامي وربطُهم به ربطاً وثيقاً، وذلك بزعزعة ثقتهم بمكانة هذه البلاد ومنـزلتِها المركزية للعالم الإسلامي، بعد وصمها باللادينية والإلحاد، والذي يفضي إلى انفصام العلاقة المعنوية بينها وبين العالم الإسلامي، وقلبِ روح الأخوّة -التي يحملها العالم الإسلامي تجاه هذه الأمة- إلى عداء.. وغيرها من أمثال هذه الخطط الرهيبة التي حازوا بها شيئاً من النجاح لحد الآن. ولكن إذا استرشد هذا التيار وبدّل خطته الرهيبة هذه وعامل الدين الإسلامي بالحسنى داخل البلاد، مثلما يلاطف العالم الإسلامي، فإنه يغنم كثيراً ويكون ممن حافظ على إنجازاته، وعندئذٍ تنجو الأمة والبلاد من كارثة مدمرة.

فلو سعيتم أنتم الذين تتولون مقام سكرتارية أهل الحمية والقومية، للحفاظ على الأسس التي تسحق المقدسات الدينية وتعمِّم المدنية الغربية، ونسبتم الحسنات الحاضرة وحسنات الانقلاب إلى إجراءاتِ قلة من الأشخاص الذين قاموا باسم الانقلاب وأحلتم النقائص المريعة والسيئات الجسيمة إلى الأمة، فعندئذٍ تعممون إذن ما ارتكبه أشخاص قلة من سيئات إلى ملايين من السيئات. فتخالفون إذن آمالَ هذه الأمة المتدينة البطلة وتجافون جيش الإسلام، وتعارضون إذن الأمةَ جميعاً وتديرون ظهركم إلى ملايين الأبطال الميامين الذين نالوا شرف الشهادة، فتعذبون أرواحهم الطيبة وتحطون من شأنهم وتهوّنون من شرفهم.

وكذا إذا نُسبتْ تلك الحسنات التي أُحرزتْ بهمة الأمة وقوة الجيش إلى أولئك القلة القليلة من الانقلابيين، انحصرت ملايين الحسنات في بضع حسنات فقط وتضاءلت وزالت، فلا تكون كفّارة لأخطاء فاحشة.

ثالثاً: لا شك أن لكم معارضين في جهات كثيرة داخلية وخارجية، وحيث إني لا أنـظر ولا أهتم بأحوال الدنيا والسياسة، فلا أعرف تلك الأمور. ولكن لأنهم ضايقوني كثيراً في هذه السنة اضطررت أن أنظر إلى سبب هذه المضايقة، فعلمت أن معارضةً قد ظهرت. فلو وَجدتْ هذه المعارضة زعيماً كفوءاً لها وانطلقت إلى الميدان باسم الحقائق الإيمانية لغلبتكم وانتصرت عليكم في الحال، ذلك لأن تسعين بالمائة من هذه الأمة مرتبط روحاً وقلباً بالأعراف الإسلامية منذ ألف سنة، وحتى لو انقادت ظاهراً إلى ما يخالف فطرتها فإنها لا ترتبط به قلباً.

ثم إن المسلم يختلف عن أفراد الأمم الأخرى، إذ لو تخلّى عن دينه فلا يكون إلّا إرهابياً فوضوياً لا يقيده شيء أياً كان، بل لا يمكن إدارته بأيٍ من وسائل التربية والإدارة إلّا بالاستبداد المطلق والرشوة العامة.

وهناك حجج كثيرة تثبت هذه الحقيقة وأمثلة كثيرة عليها اختصرها محيلاً الأمر إلى فطنتكم.

لا ينبغي لكم أن تتخلّفوا عن الدول الاسكندنافية التي شعرت بحاجتها الشديدة إلى القرآن الكريم في هذا العصر، بل عليكم أن تكونوا قدوة لها ولأمثالها من الدول. فلو أسندتم ذنوب الانقلاب التي حصلت حتى الآن إلى بضعة أشخاص، وسعيتم لتعمير الدمار -ولاسيما بحق الأعراف الدينية- التي نجمت عن ظروف الحرب العالمية وانقلابات أخرى، لقلّدكم سعيكم هذا شرفاً عظيماً في المستقبل ولأصبح كفارة لذنوبكم العظيمة وكنتم أهلاً لصفة أهل الحمية والغيرة على الأمة، لما تقدمون من خدمة للأمة والوطن.

رابعاً: مادام الموت لا يُقتل وباب القبر لا يُغلق، وأنتم ستهرعون إلى القبر كأي إنسان آخر، وأن ذلك الموت -الذي لا مناص منه- إعدامٌ أبديّ لأهل الضلالة، لا تُبدِّله مائة ألف من الدعوات الوطنية وحب الدنيا والإنجازات السياسية، إلّا القرآنُ الكريم الذي يبدل ذلك الإعدامَ الأبدي إلى تذكرةِ تسريح لأهل الإيمان، كما أثبتت ذلك رسائلُ النور الموجودة بين أيديكم والتي لم يعارضها أيُّ فيلسوف ولا أي ملحد كان، بل هي التي جَذبت إلى حظيرة الإيمان كلَّ من قرأها من الفلاسفة بدقة وإنعام. وحتى في ظروف هذه السنين الأربع لم يملك الفلاسفة والعلماء الخبراء ولا محاكمُكم الأربع إلّا الإعجابَ بها وتقديرَها وتصديقها، فلم يعترضوا عليها، لحججها الرصينة في إثبات الحقائق الإيمانية، فضلاً عن أنها لا ضرر يرد منها لهذا الوطن والأمة، بل إنها سد قراني -كسد ذي القرنين- أمام التيارات الرهيبة المهاجمة. ولي مائة ألف شاهد على هذا من الأمة التركية ولاسيما من الشباب المثقف.

فلأجل هذه الأسباب المذكورة فإن واجبكم الأساس هو تبنّي أفكاري هذه التي طرحتها لكم بجد واهتمام. فأنتم تستمعون دائماً إلى الكثيرين من الدنيويين السياسيين، فيلزم الاستماع -ولو قليلاً- إلى ضعيف عاجز مثلي واقف على شفير القبر يبكي على حال المواطنين ويتكلم معكم في سبيل الآخرة.