[فصل في العكس]([1])

الحكم الثاني من الأحكام التي يتوقف عليها إثبات لزوم النتائج للأشكال العكس. ويطلق لغةً على غير اللازم، وعلى النقيض ومطلق التبديل. وأما هنا فبالمعنى المصدريّ: تبديل طرفَي القضية حملية، أو متصلة لزومية مع بقاء الكيف والصدق لا الكذب، لجواز صدق اللازم مع كذب الملزوم. وبالمعنى المتعارف أخص القضايا اللازمة الحاصلة بالتبديل. ثم للزوم المغايرة بين اللازم والملزوم لا عكس معتبرًا لما نسبته من الإضافة المتشابهة الطرفين كالعناد، والاتفاق نظير الأخوة.

ثم إن لزوم العكس نظريّ، يحتاج إلى البرهان، وهو ثلاثة.

أحدها: الخلف.. أساسه إثبات العكس بإبطال النقيض. وتصويره: لو لم يصدّق العكس لزومًا، لأمكن انفكاكه. فيمكن صدق نقيضه مع كل صادق ومنه الأصل. ولو أمكن صدقهما لأنتج بالشكل الأول سلب الشيء عن نفسه، وهو محال لوجود الموضوع للإيجاب في أحدهما. وإمكان المحال باطل. وبطلان اللزوم يستلزم بطلان الملزوم.. إما بصورته وهو بدهي الإنتاج. وإما بأصل القضية وهو مفروض الصدق.. فلم يبق إلّا نقيض العكس، وهو منشأ المحال. فلا يمكن صدقه، فيلزم العكس.

الثاني: طريق العكس.. وهو عكس نقيض العكس، ليضاد أو يناقض الأصل.. والعكس صادق بالفرض. فعكس النقيض باطل، فملزومه وهو النقيض أيضًا باطل، ونقيض النقيض وهو العكس صادق ألبتة.

وحاصله: أنه لو لم يصدّق العكس لزومًا، لأمكن صدقُ النقيض ولو صَدَقَ صَدَقَ لازمه وهو عكسه. ولو صدق اللازم لزم اجتماع الضدّين أو اجتماع النقيضين. والأصل مفروض الصدق فعكس النقيض هو ملزوم المحال فلا يمكن، فيلزم العكس.

اعلم أن عكوس الموجّهات الموجبة ثلاثة فقط: الحينية المطلقة للدّوام الأربع.. والحينية اللادائمة للخاصّتين.. والمطلقة العامة لخمسة.

واعلم أن بسرّ «لازمُ اللازمِ لازمٌ» كلّ ما هو أعمّ من العكس عكس، لا اصطلاحًا.. وبسرّ أن ملزوم الملزوم ملزوم. فكل ما هو أخصّ من الأصل يستلزم عكسه.

واعلم أيضًا أنّ لنا مقامين: إثبات ونفي.. فلإثبات اللزوم لنا ثلاث طرائق: الخلف كما مرّ. وأما الافتراض والعكس، فكالتنبيه والتنوير للزوم الدّور في البعض.([2])

فاعلم أن الدائمتين والعامتين عكسها الحينية المطلقة بالخلف.. أي وإلّا لصدق نقيضها، وهي العرفية العامة السالبة الكلية، فهو كبرى للأصل.. فينتج سلب الشيء الموجود عن نفسه بإحدى الجهات الأربعة، لأن نتيجة الشكل الأول تتبع الصغرى إذا كانت الكبرى وصفيّة -كما هنا- وسلب الشيء عن نفسه محال، فليس من صورة الشكل ولا من الصغرى، بل من الكبرى. وهو نقيض العكس، فلا يمكن أيضًا. فيصدّق ويلزم العكس. وبالافتراض وهو جعل عقد الحمل صغرى وعقد الوضع كبرى. فينتج بالثالث العكس، ولا يلزم الدّور.. أو الإثبات بغير الثالث لأن المراد تنبيه وتصوير.. وبالعكس أيضًا. مثلًا: «كل إنسان حيوان» بإحدى الجهات.. فبعض الحيوان إنسان، حين هو حيوان.. وإلّا لزم جمع النقيضين أو الضدّين. إذ نقيض العكس يستلزم ما يضادّ الأصل الصادق. وضدّ الصادق كاذب، فملزومه وهو النقيض أكذب. فنقيض النقيض وهو العكس صادق. ولازم أيضًا لامتناع إمكان المحال.

وأما مقام النفي، فبالتخلف.. واعلم أن الأعمّ للأخصّ.. كما أن الأخص ملزوم الأعمّ.. وأن لازم الأعمّ، لازم الأخص.. وأن ملزوم الأخص، ملزوم الأعمّ.. وأنّ ما لايلزم الخاصّ لايلزم العامّ.. وإلّا لزم الخلف.. وأن ما لايستلزم الاعمّ، لايستلزم الأخصّ.. وإلّا ثبت الخلف.

واعلم أيضًا أنّا نحتاج في نفي عكسيته، ماعدا الحينية المطلقة لهذه الأربعة، إلى اثنى وثلاثون([3]) موادَّ تخلف. فالأقصر في طريقه: أن نأخذ من جانب الأصل الأربعة، الأخصَّ الأقوى الملزومَ لأخواته، ونأخذ من جانب العكس اللازم الأعمّ الأخف اللازم لأخواته. فالأخصّ في الأصل الضرورية الذاتيّة، وفي جانب العكس الأعمّ، ولو من وجه الوقتيّة، مع التخلّف في صدق «كل كاتب إنسان» بالضرورة، مع كذب «بعض الإنسان كاتب» بالضرورة في وقت.

والخاصّتان إلى حينيّة لادائمة، مثل «كل كاتب متحرك مادام كاتبًا، لا دائما». أي لاشيء من الكاتب بمتحرك بالفعل.. عكس «بعض المتحرك كاتب، حين هو متحرك». و«بعض المتحرك ليس بكاتب بالفعل».. وإلّا لصدق «كل ذاتٍ متحرك كاتب دائمًا». أي الكتابة دائمي للذات. ومقتضى الجزء الأول من الأصل: أن التّحرك دائم بدوام الكتابة الدائمة بهذا الفرض.. فيكون التّحرك دائمًا للذات.. فيكون ضدّ قيد الأصل المفروض الصدق..

فعكس القيد «بعض المتحرك ليس بكاتب بالفعل»، لا يبين بالخلف، لأن نقيضه وهو «كل متحرك كاتب دائمًا».. مع نفس القيد ينتج سلب الشيء عن نفسه بالفعل، وهو جائز. لأن عنوان الموضوع منفكّ، ولا بطريق العكس.. لأن عكس «كل متحرك كاتب دائمًا»، «بعض الكاتب متحرك في حين». وهو لا يضاد القيد.. ولا بالافتراض، لأنه جعل عقد الحمل صغرى وعقد الوضع كبرى، فخرج من عقد الوضع، بسبب إيجاب الجزء الأول؛ «كل إنسان كاتب بالفعل». ومن عقد الحمل: «لاشيء من الإنسان بمتحرك بالفعل»، فلا يكون صغرى للشكل الثالث لاشتراط الإيجاب.

اعلم أن عكس الوقتيتين والوجوديتين والمطلقة العامة المطلقةُ العامة، فنحن على وظيفتين:

الأولى: إثبات لزوم هذه لتلك، بتلك الطرائق. فالأقصر: أن نأخذ الأعمّ من الخمسة. لأن لازم الأعم لازم الأخص، والأعمّ المطلقة. لأن المطلق أعمّ من المقيد. فإذا صدّق: «كل كاتب ضاحك بالفعل»، صدق لزومًا «بعض الضاحك، كاتب بالفعل» بالخلف. أي وإلّا فلا شيء من الضاحك بكاتب دائمًا -كبرى للأصل- فينتج لاشيء من الكاتب بكاتب دائمًا، وهو محال لوجود الموضوع. لأنه كان عقد وضع الموجبة. والدليل الذي يستلزم المحال باطل، لفساد أحد أركانه. والصورة بدهيّة، والأصل الصغرى مفروضة الصدّق، فيبطل نقيض عكسنا.. فثبت «بعض الضاحك كاتب بالفعل». فإن شئت فاستدل على سبيل التنبيه والتنوير دون الإثبات، للزوم الدّور بالعكس والافتراض. هكذا: لو لم يصدّق العكس، لصدق النقيض. والنقيض يستلزم عكسه، وهو يضاد الأصل الصادق، فيكذب فيبطل ملزومه. فثبت نقيض النقيض، وهو العكس.

والافتراض: جعل عقد الحمل صغرى، وعقد الوضع كبرى بالثالث الذي نتيجته تابعة لعكس صغراه، وهو المطلوب. وخلاصته: أن الأصل يخبرنا بأن عنوان الموضوع وعنوان المحمول ثابتان بالفعل لذات واحد. فأيتّهما ثبت للذات، -بناء على سلّميته- يثبت له الآخر بالفعل كما ترى.

أما الوظيفة الثانية: فنفي لزوم الأخص من المطلقة لا الأعمّ، فإنه (أي الأعم) لازم أيضًا. والطريق الأخصر للتخلف: أن نأخذ الأخص من الخمسة؛ لأن ما لايلزم الأخص لايلزم الأعمّ ألبتة، والأخص الوقتية المعينة. ونأخذ من الأحد عشر الأعمَّ، لأن عدم لزوم الأعم يستلزم عدم لزوم الأخص بالضرورة.. والأعمُّ من الكل الأخصُّ من المطلقة؛ الوجوديةُ اللاضرورية. مثلا: يصدّق «كل قمر منخسف في وقت الحيلولة بالضرورة، لادائمًا».. مع كذب «بعض المنخسف قمر لا بالضرورة»، باعتبار القيد. لأن الانخساف خاصة القمر. فذات المنخسف قمر دائما بالضرورة.


[1] كلنبوي ص28.

[2] وهو الموجبات.

[3] (لعله: اثنين وثلاثين).أجير.