عودة الأستاذ إلى أميرداغ

إثر إعلان محكمة اسطنبول قرار براءته عاد الأستاذ إلى «أميرداغ»؛ وبينما كان ذات يومٍ يتجوَّل كعادته بين الحقول في شهر رمضان، إذ لحِق به ثلاثة عناصر من الشرطة يرأسهم رقيبٌ أول، وطلبوا منه ارتداء القبعة الإفرنجية فرفض، فنقلوه إلى المخفر، وعلى إثر هذه الحادثة كتب الأستاذ عريضةَ شكوى بعث بها إلى كلٍّ من وزارتَي العدل والداخلية، كما بعث إلى أحد طلابه بأنقرة ليُعلِم نواب البرلمان المعنيِّين بالرسائل بما جرى، فأرسل الطالب نسخةً من عريضة الشكوى إلى صحيفة «الجهاد الأكبر» التي تصدر في مدينة «صامسون»، [مدينةٌ تقع في شمالي تركيا، وتتوسط الشريط الساحليَّ المُطلَّ على البحر الأسود؛ هـ ت] فنشرتها كمقالٍ تحت عنوان: «الدليل الأكبر»، وألحقت بها حاشية.

وبعد ذلك أرسل طلاب النور في جامعتَي أنقرة واسطنبول عدةَ مقالات إلى الصحيفة المذكورة فنشرتْها، وفي هذه الأثناء وقعت حادثة «ملاطية»، [مدينة تاريخية تقع في وسط الأناضول قريبًا من نهر الفرات، والحادثة المذكورة وقعت في العام 1952م، حيث أطلق شابٌّ من طلاب المدارس الثانوية النارَ على رئيس تحرير مجلة «الوطن» المشهور بمقالاته الحاقدة على الدين وأهله، وذلك في أثناء مؤتمرٍ صحفيٍّ، فاتخذت القوى العلمانية من هذه الحادثة وسيلة ضغطٍ على رئيس الحكومة لاتخاذ مواقف صارمة تجاه التيارات الدينية في البلاد؛ هـ ت] فشُنَّتْ حملةٌ ملأى بالكذب والافتراء والتشويه ضد المتديِّنين، وقد تأثر بها بعض المسؤولين فسعَوا لإيجاد نقاط اتهامٍ لدى الصحف الدينية، وأُوقف مدير الصحيفة وأحد طلاب النور بجامعة أنقرة، وقُدِّما إلى المحاكمة بسبب نشر مقالة «الدليل الأكبر» وغيرها من المقالات؛ وشرعت الصحف تنشر مقالاتٍ وبياناتٍ تهاجم رسائلَ النور وما تَحقَّق لدعوتها من تقدمٍ وازدهار، وانطلقت حملةُ بحثٍ وملاحقةٍ في خمسةٍ وعشرين موضعًا من أنحاء تركيا، واستهدفت إدانة قرابة ستمئة طالبٍ من طلاب النور، إلا أن العملية لم تسفر عن تحقيق شيءٍ من أهدافها، بل تَبيَّن في حصيلة الأمر أنه لا يوجد في رسائل النور ولا لدى طلابها ما يستوجب الاتهام أو الإدانة.

وعلى الرغم من أن محكمة «صامسون» أصدرت في السابق قرارًا يُدين رسائل النور ومؤلِّفَها، إلا أن محكمة التمييز نقضتْه من أساسه وأردفتْ باطِّلاعها على مضمون الرسائل وسلامتها من التهمة، مما اضطر محكمةَ «صامسون» لعقد جلسةٍ جديدةٍ برَّأت فيها الرسائلَ ومؤلِّفَها لعدم وجود عناصر اتهامٍ في المقالات المنشورة.

ومن جهةٍ أخرى رُفِعَت دعوى ضدَّ الأستاذ في محكمة «صامسون» بسبب مقالة «الدليل الأكبر»، وأصرَّت المحكمة على مثوله لديها، وأصدرت بحقه مذكرةَ إحضارٍ متجاهلةً التقرير الطبي الذي أفاد تعذُّر مجيئه لكبر سنه وتردي حالته الصحية؛ فقرر الأستاذ مضطرًّا حضورَ المحكمة، وغادر «أميرداغ» متوجهًا إلى اسطنبول ليُكمل منها الرحلة إلى «صامسون»، إلا أنه لم يستطع إكمال الطريق لشدة اعتلاله وضعف تحمله، فحصل على تقريرٍ طبيٍّ يفيد بأنه بعد المعاينة الطبية لسعيدٍ النُّورْسِيّ تَبيَّن أن حالته الصحية لا تسمح له بالسفر إلى «صامسون» برًّا ولا بحرًا ولا جوًّا، وأُرسِل التقرير إلى محكمة «صامسون» التي كان مُدَّعيها العامُّ مُصِرًّا على مثول الأستاذ شخصيًّا، فقررت هيئة المحكمة استنابةَ إحدى محاكم اسطنبول في أخذ إفادات بديع الزمان، وتم الأمر على هذا النحو، وفي نهاية المطاف قضَتْ محكمة «صامسون» ببراءة سعيدٍ النُّورْسِيّ لعدم وجود مقصِدٍ يوجب إدانته في المقال الذي كتبه.

***