الفصل الثالث

بداية الانعطاف التاريخي

سنة 1908م/1326هـ

إعلان المشروطية وماهيتها

«المشروطية: مجلّى وتفسير لآيتي ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْاَمْرِ﴾ (آل عمران:159).. ﴿وَاَمْرُهُمْ شُورٰى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى:38) فهي المشورة الشرعية.. فقوة ذلك الوجود المنور هو الحق.. وحياته هي العدالة.. وقلبه هي المعرفة.. ولسانه هي المحبة.. وعقله هو القانون لا الشخص.. إن روح المشروطية أن تكون القوة في القانون، والأمر والنهي في يد الحق، والمرء خادماً.. إذ المشروطية هي حاكمية الأمة، والحكومة ليست إلّا خادمة. ولئن صدقت المشروطية فالقائمقام والوالي ليسا رؤساءَ بل خدّاماً مأجورين».

«مشروطية» و«حرية» شرعيتان أو «استبداد جديد»

«إن أصحاب الأفكار الفاسدة، يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل ألّا نشاهد مرة أخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك المظالم التي جرت في سيل الزمان، أريد أن أقيم سداً حديداً بين الماضي والحاضر وذلك بإيضاح تاريخ حياة الحرية. وهو كالآتي:

إن هذا الانقلاب لو أعطى الحريةَ التي ولّدها لأحضان الشورى الشرعية لتـربيها فستُبعث أمجاد الماضي لهذه الأمة قوية حاكمة. بينما لو صادفت تلك الحرية الأغراض الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها.

يا أبناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً كي لا تفلت من أيديكم، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر.([1]) ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة.

والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ما كان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من الحرية والعدالة والمساواة على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت.

«ففي بداية إعلان الحرية، أرسلتُ ما يقارب من خمسين أو ستين برقية إلى العشائر القاطنين في شرقي البلاد، وذلك بوساطة ديوان رئاسة الوزارة. كان مضمون تلك البرقيات:

«إن المسألة التي سمعتموها وهي المشروطية والقانون الأساسي ما هي إلّا العدالة الحقة والشورى الشـرعية. تلقَّوْها بقبول حسن. اسعوا للحفاظ عليها؛ لأن سعادتنا الدنيوية في المشروطية. فلقد قاسَينا الأمرَّين من الاستبداد أكثر من الآخرين».

وقد أتت من كل مكان إجابات إيجابية لهذه البرقيات. بمعنى أنني قمت بتنبيه الولايات الشرقية ولم أتركهم غافلين، يستغفلهم استبداد جديد..»

وقمت بإلقاء خطب عدة على العلماء عامة وعلى كثير من طلاب الشريعة، وذلك في كل من جامع أياصوفيا وبايزيد والفاتح والسليمانية، وبينتُ العلاقة الحقيقية بين حقائق الشريعة والمشروطية. وأوضحت أن الاستبداد المتعسف لا صلة له بالشريعة الغراء، وأن الشريعة قد أتت لهداية العالم أجمع كي تـزيل التحكم الظالم والاستبداد..

وقد قلت: «إن المسلك الحقيقي للشريعة إنما هو حقيقة المشروطية المشروعة».بمعنى أنني رضيت بالمشروطية بالدلائل الشرعية، وليس كما رضي بها بعض دعاة المدنية الغربية، إذ قبلوها تقليداً وفهموها خلافاً للشريعة. فلم أتنازل عن الشريعة ولم أُعطها أتاوة لشيء.

إذ لما ارتقت المشروطية الشرعية عرش الأفكار، هزّت الحبل المتين للملّية، فاهتز بدوره الإسلام -وهو العروة الوثقى- وعرف كل مسلم أنه ليس هملاً سائباً، بل مرتبطاً بالآخرين بالمنفعة المشتركة والحسّ المجرد، فالمسلمون جميعاً مرتبطون كالعشيرة الواحدة.

إن أوروبا تظن أن الشريعة هي التي تمدّ الاستبداد بالقوة وتعينه. حاش وكلا.. إن الجهل والتعصب المتفشـيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من أن الشريعة تعين الاستبداد. لذا تألمت كثيراً من أعماق قلبي على ظنهم السيء هذا بالشريعة، فكما أنني أكذّب ظنهم فقد رحّبت بالمشروطية باسم الشريعة قبل أي شخص، ولكني خشـيت من أن يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من أعماقي، وبكل ما أوتيت من قوة في خطاب أمام المبعوثيـن «النواب».. في جامع أياصوفيا وقلت: افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقوها على أساسها، ولقّنوها الآخرين على هذه الصورة كي لا تلوثها اليد القذرة لاستبداد جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشيء الطيب المبارك ترساً لأغراضه الشخصية. قيّدوا الحرية بآداب الشرع لأن عوام الناس والجاهليـن يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد أن ظلوا أحراراً سائبين بلا قيد وشرط. ولتكن قبلتكم في صلاة العدالة على المذاهب الأربعة كي تصحّ صلاتكم، لأنني قد أعلنت دعوىً: وهو أنه يـمكن استخراج حقائق المشروطية صراحة وضمناً وإذناً من المذاهب الأربعة. ثم إن سبب افتتاني بمحبة معنى المشروطية هو أن المدخل الأول لتقدم آسيا والعالم الإسلامي في المستقبل هو المشروطية المشروعة والحرية التي هي ضمن نطاق الشريعة، وأن مفتاح حظ الإسلام وسعده ورقيه موجود في الشورى التي في المشروطية؛ حيث قد انسحق -لحد الآن- ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين تحت أقدام الاستبداد المعنوي للأجانب، وحيث إن الحاكمية الإسلامية مهيمنة الآن في العالم ولا سيما في آسيا، فإن كل مسلم يكون مالكاً لجزء حقيقي من الحاكمية. وإن الحرية هي العلاج الوحيد لإنقاذ ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين من الأسر. فحتى لو تضرر هنا -بفرض محال- عشـرون مليوناً من الناس في أثناء إرساء الحرية، فليكن ذلك فداءً، إذ نأخذ ثلاثمائة بدفع عشرين.

وا أسفى! إن العناصر والقوميات الموجودة عندنا مختلطة اختلاط أجزاء الهواء، ولم تمتزج امتزاج أجزاء الماء. وستمتزج تلك العناصر والقوميات بالإسلام الذي يفعل فعل التيار الكهربائي فيهم، وسيأتي بإذن الله مزاج العدالة المنصفة المتـولدة من حرارة نور المعارف الإسلامية، فلتعش المشروطية المشروعة، ولتدم الحرية النيّرة المسترشدة بتربية حقيقة الشريعة.

وأقول بلا فخر: «نحن المسلمين الحقيقيين ننخدع ولكن لا نخدع، ولا نتنـزّل للخداع لأجل حياة دنيوية، لأننا نعلم «إنما الحيلة في ترك الحيل». ولكن لأنني قد عاهدت المشروطية الحقيقية المشروعة سأصفع الاستبداد إن قابلته في أي لباس كان، حتى لو كان لابساً ملابس المشروطية أو تقلّد اسمها. وفي اعتقادي أن أعداء المشروطية هم أولئك الذين يشوّهون صورتها بإظهارها مخالفة للشريعة وأنها ظالمة، فيكثرون بهذا أعداء الشورى أيضاً. علماً أن القاعدة هي: «لا تتبدل الحقائق بتبدل الأسماء»».

لقاء مع مفتي الديار المصرية  

«في السنة الأولى من عهد الحرية سأل الشيخ بخيت -مفتى الديار المصرية- سعيداً القديم:

ما تقول في حق هذه الحرية العثمانية والمدنية الأوروبائية؟

فأجابه سعيد: «إن الدولة العثمانية حاملة بدولة أوروبائية وستلدها يوماً ما، وإن أوروبا حاملة بالإسلام وستلده يوماً ما».

فقال له الشيخ الجليل: «وأنا أصدّق ما يقوله».

ثم قال لمن حوله من العلماء: «لا يُناظَر هذا الشاب، ولا أتمكن من غلبته».

فلقد شاهدنا الولادة الأولى، أنها سبقت أوروبا في بُعدها عن الدين بربع قرن.
أما الولادة الثانية فستظهر بعد حوالي ثلاثين سنة بإذن الله. ستظهر في الشرق والغرب دولة إسلامية».

خطاب إلى الحرية

«أيتها الحرية الشرعية!

انكِ تنادين بصوت هادر، ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة، توقظين بها كردياً بدوياً مثلي نائماً تحت طبقات الغفلة، ولولاكِ لظللتُ أنا والأمة جميعاً في سجن الأسر والقيد.إنني أُبشّرك بعمر خالد. فإذا ما اتخذتِ الشريعةَ التي هي عين الحياة، منبعاً للحياة، وترعرعتِ في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فإنني أزف بشرى سارة أيضاً بأن هذه الأمة المظلومة سـتترقى ألف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها، وإذا ما اتخذتك الأمة مرشدة لها، ولم تلوّثك بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد أخرَجَنا إذن مَن له العظمة والمنة من قبـر الوحشة والاستبداد، ودعانا إلى جنة الاتحاد والمحبة….

إن هذا الاتحاد، اتحاد القلوب والمحبة الموجهة للامة كافة، وهي معدن السعادة والحرية، قد أنعم بها المولى الكريم علينا مجاناً، بينما الأمم الأخرى قد ظفروا بها بعد دفع الملايين من جواهر النفوس الغالية.

إن صدى الحرية والعدالة ينفخ نفخ إسرافيل فيبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا القومية الرفيعة وأخلاقنا الإسلامية الحميدة، حتى يرن صماخ الكرة الأرضية المجذوبة جذبة المولوي، ويهيج الأمة جميعاً ويهزها هزّ المجذوب.

وإياكم يا إخوان الوطن أن تقضوا عليها بالموت مرة أخرى بالسفاهات والإهمال في الدين.

إن القانون الأساسي المؤسس على هذه الشريعة الغراء قد أصبح ملك الموت لقبض أرواح جميع الأفكار الفاسدة والأخلاق الرذيلة والدسائس الشيطانية والتزلفات الدنيئة. فيا إخوة الوطن! لا تعيدوا الحياةَ لتلك الرذائل بالإسرافات ومخالفة الشريعة والملذات المحرمة…

وبخلافه فإن تفسير الحرية والعمل بها على أنها التحرر من القيود والانغمار في السفاهات والملذات غير المشروعة والبذخ والإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء اتباعاً لهوى النفس.. مماثل لمن يتحرر من أسر سلطان واحد ويدخل في استبداد حقراء سافلين كثيرين. فضلاً عن أن هذا النمط من الحرية يُظهر أن الأمة غير راشدة ومازالت في عهد الصبوة وليست أهلاً للحرية. فهي سفيهة إذن تستحق الحجر عليها، بالرجوع إلى الاستبداد السابق البائد…

وبناء على ما سبق لاينبغي أن ننخدع، بل نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: «خذ ما صفا دع ما كدر» وفي ضوئها سنأخذ من الأجانب -مشكورين- كل ما يعين على الرقي المدني من علوم وصناعات. أما العادات والأخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيراً لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة.

فنحن لو أخذنا منهم المدنية -بسوء حظنا وسوء اختيارنا- بما يوافق الهوى والشهوات -كالأطفال- تاركين محاسنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجلات، إذ كيف إذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا ما يكون لنا أن نتجمل بمساحيق التجميل!..

ينبغي لنا الإقتداء باليابانيين في المدنية، لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا. وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الإسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالإسلام…

نحن على أمل عظيم أن تثمر مزرعة الأناضول ورومَلي شباناً غيارى. فلا جرم أن الممالك العثمانية محل ظهور الأنبياء، ومهد الدول الحضارية، ومشرق شمس الإسلام. فإذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الإنسانية بغيث الحرية، فإنها تتحول إلى شجرة طوبى من الأفكار النيرة وتمتد أغصانها إلى كل جهة، وسيجعل الشرق مشرقاً للغرب، إن لم تفسد وتنخر بالكسل والأغراض الشخصية…

إن الشريعة الغراء تمضي إلى الأبد لأنها آتية من الكلام الأزلي. والبرهان الباهر عليه هو أن الشريعة تتوسع وتنمو نمو الكائن الحي أي بنسبة نمو استعداد الإنسان وتشربه من نتائج تلاحق الأفكار وتغذيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من أغصان شجرة استكمال العالم.

فالحرية والعدالة والمساواة التي كان يرفل بها خير القرون والخلفاء الأربعة، ولاسيما في ذلك الوقت، دليل على أن الشريعة الغراء جامعة لجميع روابط المساواة والعدالة والحرية الحقة. فآثار سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما وصلاح الدين الأيوبي دليل وأي دليل على هذا الادعاء.

ومن هنا فإني أقرر أن سبب تأخرنا وتَدَنّينا وسوء أحوالنا إلى الآن ناتج مما يأتي:

1- عدم مراعاة أحكام الشريعة الغراء.

2- تصرفات بعض المداهنين تصرفاً عفوياً.

3- التعصب المقيت في غير محله سواءً لدى عالم جاهل أو جاهل عالم!

4- تقليد مساوئ المدنية الأوروبية تقليداً ببغائياً -بسوء حظنا أو سوء اختيارنا- مما ولّد تركنا لمحاسن المدنية التي تستحصل بمشكلات ومصاعب.

فلو قام الموظفون خير قيام بوظائفهم وسعى الآخرون حسب الظروف المحيطة وما يتطلبه الزمان الحاضر، فلن يجد أحد متسعاً من الوقت للسفاهة؛ ولو انهمك أي منهما بها فلا يكون إلّا جرثومة خطرة في جسم المجتمع…

كما أن الجسم محال أن يتحلل إلى ذرات دفعة واحدة كذلك تشكّله من ذرات دفعة واحدة وبصورة فجائية محال أيضاً. لذا فإن فصل الموظفين السابقين من جسم الدولة ووضع آخرين جدد في مواضعهم متعذر وإن لم يكن محالاً. علماً أن الدولة ستنبذ الموظفين الذين ينطوون على خبث دفين لا يمكن إصلاحه، بينما باب التوبة مفتوح لمن يمكن إصلاحه ما لم تطلع الشمس من مغربها. فهؤلاء يجب الاستفادة من تجاربهم، إذ إشغال مواضعهم الوظيفية يحتاج إلى أربعين سنة أخرى. وإلّا فإن إطالة اللسان بالسوء إلى الجميع وإهانتهم يجعل هذا الاتحاد، اتحاد الأمة العظيم، معرّضاً لوباء وبيل من أفكار فاسدة وأخلاق سيئة…»

مع عمانوئيل كراصو  

حاول اليهودي المعروف «عمانوئيل كراصو» أن يجتمع ببديع الزمان في إطار محاولات التأثير فيه ولم يمانع من مقابلته. ولكن هذا اليهودي سرعان ما قطع الاجتماع وتركه هرباً من تأثيـر شخصية بديع الزمان إذ قال وهو لا يكاد يصدق نفسه:

لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجّني في الإسلام بحديثه.

موقفه من جون تورك

[كان الأستاذ النُّورْسِيّ يحسن الظن بالطيبين منهم بادئ الأمر كما هو واضح في محاورته العشائر]:

«س: كنا نسمع سابقاً وإلى الآن أن أكثر أفراد «جون تورك» هم من الماسونيين، الذين يعادون الدين.

ج: لقد ألقى الاستبداد هذه التلقينات إبقاءً لنفسه، ومما يسند هذا الوهم ويقوّيه عدم مبالاة بعضهم بالدين. لكن اطمئنوا، إن قصد من لم ينضم منهم إلى الماسونية، ليس الإضرار بالدين، بل نفع الأمة وتأمين سلامتها، ولكن البعض منهم يفرطون في الهجوم على التعصب المقيت الذي لا يليق بالدين. ويبدو أنكم تطلقون على الذين سبق منهم خدمات للحرية والمشروطية أو الذين ارتضوا بهما اسم «جون تورك». فاعلموا أن قسماً من أولئك هم مجاهدو الإسلام، وقسماً منهم فدائيو سلامة الأمة، فالذين يشكلون القسم الأعظم منهم والعقدة الحياتية لهم هم من غير الماسونيين ويمثلون أكثرية الاتحاد والترقي. فهناك علماء ومشايخ في صفوف «جون تورك» بقدر عشائركم.. رغم وجود زمرة من الماسونيين المفسدين السفهاء فيهم، وهم قلّة قليلة لا يتجاوزون عشرة بالمائة منهم، بينما التسعون بالمائة الباقية منهم مسلمون ذوو عقيدة أمثالكم ومعلوم أن الحكم للأكثرية.. فأحسنوا الظن بهم، إذ إن سوء الظن يضركم ويضرهم معاً.

س: لِمَ تحسن الظن -كلما أمكنك ذلك- بحكومة المشروطية وأفراد «جون تورك» غير الملحدين؟.

ج: لأنكم تسيئون الظن بهم كلما تيسّر لكم ذلك، فأنا أحسن الظن بهم، فإن كانوا بمثل ما أقول فبها ونِعمَت، وإلّا فأنا أرشدهم إلى الصواب كي يسلكوه.

س: ما رأيك في الاتحاد والترقي؟.

ج: مع أنني أثمّن قيمتهم إلّا أنني أعترض على الشدّة التي يزاولها سياسيوهم وأهنئ في الوقت ذاته واستحسن -إلى حدٍّ ما- فروعهم وشعبهم الاقتصادية والثقافية ولاسيما في الولايات الشرقية.

إن سعيداً القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة «الاتحاد والترقي» مال إلى حكومتها ولاسيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير وإعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك إلّا بما كان يحس به من إحساس مسبق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبمـا يخالف مشربه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول إلى مخيض لا قيمة له. فعاد «سعيد الجديد» إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيداً القديم.

وقد كنت أرى -في بداية عهد الحرية- ملحدين داخلين ضمن الاتحاديين يقولون:

إن في الإسلام والشريعة المحمدية دساتير قيمة شاملة نافعة جداً وجديرة بالتطبيق للمجتمع البشري ولاسيما للسياسة العثمانية. فكانوا ينحازون إلى الشريعة المحمدية بكل ما لديهم من قوة، فهم من هذه النقطة مسلمون، أي يلتزمون الحق ويوالونه، مع أنهم غير مؤمنين، بمعنى أنهم أهل لأن يدعون: «مسلمون غير مؤمنين».

أما الآن فهناك مَن يعتقد بنفسه الإيمان، فيؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، إلّا أنه يوالى التيارات المناهضة للشريعة والموافقة للأجانب، تحت اسم المدنية. ولما كان لا يلتزم بقوانين الشريعة الأحمدية التي هي الحق والحقيقة ولا يواليها موالاة حقيقية، فيكون إذن مؤمناً غير مسلم. ويصح القول: كما أن الإسلام بلا إيمان لا يكون سبباً للنجاة كذلك الإيمان بلا إسلام -على علم- لا يصمد ولا يمنح النجاة».

مطاليبه من الاتحاد والترقي

أ. إنشاء مدرسة الزهراء

ب. الصدق والأمانة وضمان مستقبل العلماء

إن لي دعوى أبحثها مع الخواص، ولي مسألة مهمة مع الحكومة، مع الأشراف، مع أولئك الذين ليسوا من الماسونيين من جماعة الاتحاد والترقي.

يا طبقة الخواص! نحن العوام ومعاشر أهل المدرسة الدينية نطالبكم بحقنا!..

نريد أن تصدقوا قولكم بفعلكم، ولا تعتذروا بقصور غيركم، ولا تتواكلوا فيما بينكم وتتكاسـلوا في خدمتنا الواجبة عليكم، وأن تتداركوا فيما فاتنا بسببكم، وأن تستمعوا إلى أحوالنا وتستشيروا حاجاتنا، وأن تستفسروا عن أوضاعنا، وتَدَعوا لَهوَكم جانباً!..

الحاصل: أننا نطلب ضمان مستقبل العلماء في الولايات الشرقية ونطلب نصيبنا من معنى «الاتحاد» و«الترقي» لا من الاسم، فنطلب ما هو هيّن عليكم وعظيم عندنا.

ج. إنشاء مجلس شورى للاجتهاد

بينا نرى الوزارة تستند أصلاً إلى ثلاثة مجالس شورى -وقد لا توفي هذه المجالس حاجاتها الكثيرة- نجد أن المشيخة قد أودعت إلى اجتهاد شخص واحد، في وقت تعقدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في أدق الأمور، فضلا عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الأفكار وتدني الأخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا.

من المعلوم أن مقاومة الفرد تكون ضعيفة أمام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من أحكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية.

وبينما كانت الأمور بسيطة والتسليم للعلماء وتقليدهم جارياً كانت المشيخة مودعة إلى مجلس شورى -ولو بصورة غير منتظمة- ويتركب من شخصيات مرموقة، أما الآن وقد تعقدت الأمور ولم تعد بسيطة وارتخى عنان تقليد العلماء واتباعهم.. أقول: كيف يا ترى يكون بمقدور شخص واحد القيام بكل الأعباء؟

ولقد أظهر الزمان أن هذه المشيخة الإسلامية -التي تمثل الخلافة- ليست لأهل إسطنبول خاصة أو للدولة العثمانية، وإنما هي مؤسسة جليلة تعود للمسلمين عامة. فوضعها الحالي المنطفئ لا يؤهلها للقيام بأعباء إرشاد إسطنبول وحدها ناهيك عن إرشاد العالم الإسلامي! لذا ينبغي أن تؤول هذه المشيخة إلى درجة ومنـزلة تتمكن بها كسب ثقة العالم الإسلامي فتكون كالمرآة العاكسة لمشاكل المسلمين. وتغدو منبعاً فياضاً للاجتهادات والأفكار. وعندها تكون قد أدت مهمتها حق الأداء تجاه العالم الإسلامي.

لقد طالبت بهذه الفكرة  أعضاء «تركيا الفتاة» إبان إعلان الدستور، فلم يوافقوا عليها، وبعد مضي اثنتي عشرة سنة طالبتهم بها أيضاً فقبلوها ولكن المجلس النيابي قد حل. والآن أعرضها مرة أخرى على نقطة تمركز العالم الإسلامي.

معارضة الاتحاد والترقي وعدّ محبتهم غير مشروعة

إن خطأ أعضاء تركيا الفتاة نابع من عدم معرفتهم بأن الدين أساس الحياة. فظنوا أن الأمة شيء والإسلام شيء آخر وهما متمايزان! ذلك لأن المدنية الحاضرة أوحـت بذلك واستولت على الأفكار بقولها: «إن السعادة هي في الحياة نفسها». إلّا أن الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضر. والتجارب القاطعة أظهرت لنا أن الدين حياة للحياة ونورها وأساسها. إحياء الدين إحياء لهذه الأمة. والإسلام هو الذي أدرك هذا. إن رقي أمتنا هو بنسبة تمسكها بالدين، وتدنيها هو بمقدار إهمالها له، بخلاف الأديان الأخرى. هذه حقيقة تاريخية، قد تنوسيت.

س: كنتَ تعارض الاتحاد والترقي، إلّا أنك تسكت عليهم الآن.

قلت: لكثرة هجوم الأعداء عليهم.

إن هدف الهجوم الذي يشنه الأعداء هو العزم والثبات اللذان يتحلّون بهما وعدم كونهم وسيلة لتنفيذ مآرب الأعداء في تسميم أفكار المسلمين. وهذا من حسناتهم. إنني أرى أن الطريق طريقان؛ ككفتي الميزان. خفة إحداهما تولد ثقل الأخرى. فأنا لا أصفع «أنور»  بجانب «أنترانيك»، ولا أصفع «سعيد حليم»  بجانب «فنـزيلوس»  وفي نظري أن الذي يصفعهما سافل منحط.

نعم، إنني عارضت شعبة -الاتحاد والترقي- المستبدة هنا، تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيّز وسببت التفرقة بين الناس وأوجدت الفرق والأحزاب القومية، وتسمّت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطخت اسم الاتحاد والترقي.

ولقد كان تسعون بالمائة من هذه الحركة موجهة ضد الاتحاد والترقي وضد استبدادهم ودكتاتوريتهم.

لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد. إلّا أنها الآن تعادي الحياة بأكملها. فإن كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق؛ فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.

ومع هذا فإن القدر الإلهي يعذبني بالأيدي الظالمة لأهل الدنيا هؤلاء، وذلك بسبب ما لا يستحقونه من ميلي إليهم، وفق القاعدة: «إن نتيجة محبة غير مشروعة عداوة ظالمة».

وقد كنت أوثر الصمت، لعلمي أني أسـتحق هذا العذاب، حيث إنني قد خدمت بصفة قائد للمتطوعين في الحرب العالمية الأولى، وخضت المعارك، وضحيت بخيرة طلابي وأحبّائي مع نيل تقدير القائد العام للجيش أنور باشا. وسقطت جريحاً، وأُسرت. وبعد مجيئي من الأسر ألقيت بنفسي في المهالك، بتأليفي كتاب «الخطوات السـت» الذي تحديت به الإنكليز وهم يحتلون إسطنبول. فعاونت هؤلاء الأصدقاء الذين ألقوني في عذاب الأسر بغير سبب. وكان هذا جزائي نظير معاونتي لهم، فأذاقني هؤلاء من المصاعب والمتاعب في ثلاثة شهور ما يفوق المصاعب والمتاعب التي قاسيت منها في روسيا طوال ثلاث سنوات.

مواقفه في الفوضى التي ضربت أطنابها عقب إعلان الحرية

«في بداية عهد الحرية «أي إعلان الدستور» تشكلت جمعيات مختلفة للّاجئين وفي المقدمة الروم والأرمن، تحت أسماء أندية كثيرة، وسببت تفرقة القلوب -كما تشتتت الأقوام بانهدام برج بابل، وتفرقوا أيدي سبأ في التاريخ- حتى كان منهم من أصبح لقمة سائغة للأجانب، ومنهم من تردى وضل ضلالاً بعيداً إذ قد عمت الفوضى والإرهاب في الأوساط بما نشرته الصحف من مقالات محرضة، وشروع الفرقاء «الأحزاب» بتسجيل أسماء الفدائيين، وسيطرة الأشخاص الذين قادوا الانقلاب، وسريان الحرية المطلقة إلى الجنود بما ينافي الطاعة العسكرية، وتلقين بعض المهمليـن الجنود ما يظنونه مخالفاً للآداب الدينية. وبعد أن انفرط عقد الطاعة زرع المستبدون والمتعصبون الجهلاء -والذين تنقصهم المحاكمة العقلية في الدين- البذور في ذلك المستنقع الآسن -بظن الإحسان- وظلت السياسة العامة للدولة بيد الجهلاء وأطلق ما يقارب المليون من الطلقات في الهواء وتدخلت الأيادي الداخلية والخارجية…»

تهدئته المشاعر المتهيجة

«لقد شعرت مراراً في اجتماعات ضخمة بالمشاعر المتهيجة لدى الناس، فخشيت أن يخلّ عوام الناس بالنظام وأمن البلاد بمداخلتهم في السياسة، فقمت بتهدئة تلك المشاعر الجياشة بكلام يلائم لسان طالب علم قروي قد تعلم اللغة التركية حديثاً.

فمثلاً: في اجتماع الطلاب في جامع بايزيد، وفي المولد النبوي المقام في أياصوفيا، وفي مسرح الفرح، هدّأتُ -إلى حدٍ ما- ثورة الناس وغضبهم. فلولا تلك الكلمات والخطب لعصفت بهم عاصفة هوجاء».([2])

تهدئته الحمالين

«توجستُ خيفة من أن يُلوّث صفاء القلوب لدى الولايات الشرقية، فيستغل بعضُ دعاة الأحزاب أبناء بلدي الذين يقرب تعدادهم من عشـرين ألف شخص، حيث إنهم يعملون بالحمالة وهم ذوو نفوس طيبة ساذجة غافلة. فتجولت جميع الأماكن والمقاهي التي يوجد فيها الحمالون، وبينت لهم المشروطية في السنة الماضية بقدر ما يستوعبونه. فقلت لهم بهذا المعنى:

إن الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، أما المشروطية فهي العدالة والشريعة؛ فالسلطان إذا ما أطاع أوامر سيدنا الرسول الكريم ﷺ وسار في نهجه المبارك فهو الخليفة، ونحن نطيعه، وإلّا فالذين يعصون الرسول ﷺ ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين.

إن عدونا هو الجهل والضرورة (الفقر الشديد) والاختلاف، وسنجاهد هؤلاء الأعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق. وسنتعاون ونتصادق يداً بيد مع الأتراك وهم إخواننا الحقيقيون الذين كانوا السبب -من جهة- لإيقاظنا من غفلتـنا ودفعنا إلى سبيل الرقي. نعم، نتعاون معهم ومع جميع من يجاورنا، لأن الخصام والعداء فساد أي فساد. فلا نملك وقتاً للخصام. ونحن لا نتدخل بشؤون الحكومة، حيث إننا لا ندرك حكمتها.

ولقد كانت لهذه النصيحة جدوىً وأثر في أولئك الحمالين الذين قاطعوا العمل في إنزال البضائع النمساوية -مثلما أقاطع البضائع الأوروبية قاطبة- حيث تصرفوا تصرفاً يتسم بالعقلانية وبعيداً عن التهور».


[1]  نعم، لقد سقونا عبودية مسمومة جداً باستبداد أرهب وأشد. (المؤلف)

[2]  صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية العرفية. إذ كادت الفوضى التي عمت المسرح تنقلب إلى نزاع دموي، بين أنصار جمعية «الاتحاد والترقي» ومعارضيهم، فاعتلى الأستاذ النورسي المنصة وخاطب بصوته الجهوري الحاضرين ودعاهم إلى النظام والإخلاد إلى السكون أولاً ثم بيّن لهم أن عليهم أن يروّضوا أنفسهم على احترام رأي المقابل واحتـرام حرية النقاش، وأن من العار على أمة أعلنت المشروطية ألا تراعي هذا الأمر، ومذكراً إياهم برحابة صدر الرسول ﷺ وقيامه بالمشورة مع أصحابه. واستطاع فعلاً إقرار السكون والهدوء في ذلك الاجتماع الذي كاد ينقلب إلى مذبحة.