المقالة الثالثة

عنصر العقيدة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله

هذه الكلمة السامية أساسُ الإسلام.. وأنوَرُ راياته وأعلاها التي ترفرف على الكائنات طرًا.

نعم، إن الإيمان الذي هو عهدنا بالميثاق الأزلي قد اندرج في هذا الكلام المقدس.

وإن الإسلام الذي هو الماء الباعث على الحياة، قد نبع من عين حياة هذه الكلمة.

فهذه الكلمة ميثاق أزلي، سُـلِّمَ بيد المبشَّرين بالفوز بالسعادة الأبدية والمعيَّنين بها، من بين البشرية المرشَّحة للخلود.

نعم، إن هذه الكلمة منهاجٌ رباني.. وترجمانٌ بليغ لأوامره تعالى، تتنور به اللطيفةُ الربانية الموضوعة على نافذة قلب الإنسان المطلِّ على عوالم الغيوب.

هذه الكلمة منهاج أزلي، ينطق به اللسان، المبلّغ الأمين عن الإيمان بالله الحكيم.. وخطاب فصيح ينشده الوجدان المليء بالأسرار تجاه الكائنات.

إن كلمتي الشهادة كل منها شاهد صادق على الأخرى؛ فالألوهية برهان «لِمِّيٌّ» للنبوة ومحمد ﷺ بذاته وبلسانه برهان «إِنِّيٌّ» للألوهية.

إن حقائق العقائد الإسلامية بجميع تفرعاتها صريحة ومبرهَنة في مظانها من الكتب، وهي في متناول اليد. ولكن لما كان إيضاح الظاهر يومئ إلى تجهيل المخاطب أو خفاء الظاهر، فلا أبيّن من عناصر العقيدة سوى ثلاثة أو أربعة منها، وأُحيل بقيتَها إلى كتب فحول العلماء، فقد أوفَوها حقَّها.

مقدمة المقصد الأول

من المعلوم لدى المدققين أن مقاصد القرآن أربعة: إثبات الصانع الواحد، النبوة، الحشر الجسماني، العدل.

فالمقصد الأول يخص الدلائل على الصانع الجليل، ومحمد ﷺ أحدُ براهينه.

هذا، وإن وجود الصانع ووحدانيته أجلّ وأظهر وأغنى من أن يَحتاج إلى إثبات، ولاسيما لدى مخاطبة المسلمين، لذا وجّهتُ كلامي هذا إلى الأجانب، وبخاصة اليابانيين؛ إذ قد سألوا في السابق مجموعة من الأسئلة، فأجبتُهم عنها في حينه، وأُدرِجُ هنا قسمًا من تلك الأجوبة.

منها: [ما الدليل الواضح على وجود الإله، الذي تدعوننا إليه؟ والخلقُ من أي شيء؟ أمن العدم أو المادة أو ذاته؟ إلى آخر أسئلتهم المردَّدة].

أرجو المعذرة عن الغموض الذي يكتنف كلامي، إذ لا يمكن حصر معرفة الله التي لا حدود لها في مثل هذا الكلام المحدّد.

إن القصد من الكلام الآتي: انجلاءُ الحقيقة في المجموع، بإظهار طريق المحاكمة العقلية وعقدِ الموازنات، لأن تحرّي النتيجة بتمامها في كل جزءٍ من أجزاء المجموع سَترٌ للحقيقة بالأوهام والشكوك، بسببٍ من جزئية الذهن وسيطرة قوة الوهم.

إن الذي يَحجب ظهورَ الحقيقة الرغبةُ في المعارضة.. والتزامُ جانب المعارِض.. وإعذارُ المرء نفسَه بإرجاع أوهامه إلى أصل موثوق بالتزامه لها.. وتتبعُ الهفوات والعيوب.. والتحججُ بحجج واهية صبيانية.. وأمثالُها من الأمور.

فإن استطعت أن تجرد نفسَك منها، فقد وفيتَ بشرطِي، فاستمعْ إذن بقلب شهيد:

المقصد الأول

إن كل ذرة من ذرات الكائنات، بينما هي مترددة في إمكانات واحتمالات غير محدودة، بذاتها وصفاتها وسائر وجوهها، إذا بها تسلك مسلكًا معينًا، وتتجه وِجهةً مخصّصة، فتُنتج مصالحَ وفوائد تتحير منها الألبابُ، مما تدل على وجوب وجوده سبحانه، وتشهد شهادة صادقة عليه، وفي الوقت نفسه تزيد سطوعَ الإيمان المودَع في اللطيفة الربانية للإنسان الممثِلة لنموذج عوالم الغيب.

نعم، كما أن كل ذرة من ذرات الكون تدل على الخالق الكريم بذاتها وبوجودها المنفرد، وبصفاتها، وخواصها؛ فإنها تدل عليه دلالات أكثر: بمحافظتها على موازنة القوانين العامة الجارية في الكون، إذ تنتج في كل نسبةٍ مَصالحَ متباينة، وفي كل مقام منه فوائدَ جليلة، لكونها جزءًا من مركبات متداخلة متصاعدةٍ في أجزاء الكون الواسع؛ وذلك من حيث الإمكانات والاحتمالات التي تسلكها في كل مرتبة، حتى إنها تستقرئ دلائلَ الوجود فيها.. لذا غدت الدلائل على وجوده سبحانه أكثر بكثير من الذرات نفسها.

فإذا قلت: لِمَ إذن لا يراه كل فرد بعقله؟

الجواب: لكمال ظهوره جلّ وعلا.

نعم، إن هناك أجرامًا مادية لا تُرى من شدة ظهورها -كالشمس- فكيف بالصانع الجليل المنزّه عن المادة!

تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا  مِنَ الْمَلَإِ الأَعلَى إلَيكَ رَسَائِلُ

تأمل في صحائف العالم بعين الحكمة، فانظر كيف سطّر البارئ المصوّر في تلك الأبعاد الشاسعة سلسلةَ الحوادث، وأنعِم النظر في تلك الرسائل الآتية من الملأ الأعلى كي ترفعك إلى أعلى عليي اليقين.

إن وجدان الإنسان لا ينسى الله قط، لِمَا غُرز فيه من «نقطتَي الاستمداد والاستناد» بل حتى لو عَطَّل الدماغُ أعماله، فالوجدانُ لا يَنسى؛ لأنه منهمكٌ بتلك الوظيفتين المهمتين؛ كالآتي:

إن قلب الإنسان مثلما يَنشر الحياةَ إلى أرجاء الجسد، فالعقدة الحياتية في الوجدان -وهي معرفة الله- تنشر الحياة إلى آمال الإنسان وميوله المتشعبة في مواهبه واستعداداته غير المحدودة، كلٌّ بما يلائمه، فتقطّر فيها اللذةَ والنشوة، وتزيدها قيمةً وترفعها شأنًا، بل تبسطها وتصقلها. هذه هي نقطة الاستمداد.

ثم إن معرفة الله نقطة استناد وحيدة للإنسان، تجاه تقلبات الحياة ودوّاماتها، وتَزاحُم المصايب وتَوالى النكبات؛ إذ لو لم يعتقد الإنسان بالخالق الحكيم الذي أَمرُهُ كلُّه حكمةٌ ونظام، وأسند الأمورَ والحوادث إلى المصادفات العمياء، وركَن إليها وإلى ما يملكه من قوة هزيلة لا تقاوِم شيئًا، فسينتابه الفزعُ والرعب وينهار مِن هَول ما يحيط به من بلايا، وسيشعر بحالات أليمة تُذكّر بعذاب جهنم.. وهذا ما لا يتفق وكمالَ روح الإنسان المكرّم، إذ يستلزم سقوطَه إلى هاوية الذلّ والمهانة، مما ينافي روحَ النظام المتقَن القائم في الكون كله… وهذه هي نقطة الاستناد..

نعم، لا ملجأ إلّا بمعرفة الله!

إذن فالوجدان يطلّ على الحقائق بذاتها من هاتين النافذتين، فيرى هيمنةَ النظام على العالم كله، والخالقُ الكريم ينشر نور معرفته ويبثها في وجدان كل إنسان من هاتين النافذتين.. فمهما أطبق العقلُ جفنه، ومهما أغمض عينَه، فالفطرة تراه وعيونُ الوجدان مفتحة دائمًا، والقلب نافذة مفتوحة.

تنبيه: إن أصول العروج إلى عرش الكمالات -وهو معرفة الله جلّ جلاله- أربعة:

أولها: منهاج علماء الصوفية، المؤسَّس على تزكية النفس والسلوك الإشراقي.

ثانيها: طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان.

هذان الأصلان وإن تشعبا من القرآن الكريم، إلّا أن فكرَ البشر قد أفرغهما في صور أخرى فأصبحتا طويلة وذات مشاكل.

ثالثها: مسلك الفلاسفة.

هذه الثلاثة ليست مصونةً من الشبهات والأوهام.

رابعها: المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه وأقربه إلى الله وأشمله لبنى الإنسان.

ونحن قد اخترنا هذا الطريق. وهو نوعان:

الأول: دليل العناية

إن جميع الآيات الكريمة التي تعدد منافع الأشياء، تومئ إلى هذا الدليل وتنظّم هذا البرهان.

وزبدة هذا الدليل: رعايةُ المصالح والحكم في نظام العالم الأكمل، مما يُثبت قصْد الصانع وحكمتَه ويَنفي وهْمَ المصادفة.

مقدمة

على الرغم من أن كل إنسان لا يستطيع أن يستقرئ استقراءً تامًا رعايةَ المصالح والانتظام في العالم ولا يمكنه أن يحيط بها، فقد تشكل -بتلاحق الأفكار في البشرية عامة- علمٌ يخص كل نوع من أنواع الكائنات، ذلك العلم ناشئ من القواعد الكلية المطردة في الكون، وما زالت العقول تكشف عن علوم أخرى.. وحيث إن الحكم لا يجري بكليته في ما لا نظام فيه، فكلية القاعدة إذن دليل على حسن انتظام النوع.. فبناء على كلية القاعدة هذه غدا كلُّ علم من علوم الأكوان برهانًا على النظام الأكمل في العالم بالاستقراء التام.

نعم، إن إظهار المصالح المتعلقة بسلسلة الموجودات بوساطة العلوم، وبيانَ فوائد الثمرات المتدلية منها، وإبراز الحِكم والفوائد المنتشرة ضمن تلافيف انقلابات الأحوال.. يشهد شهادةً صادقة على قصد الصانع الحكيم، ويشير إليه، ويطرد شياطين الأوهام كالنجم الثاقب.

إشارة: إذا جردت نفسَك من حجاب الألفة التي هي سببُ الجهل المركب، والتي تنشئ لدى الإنسان النظرَ السطحي العابر.. وأفرغتَ نفسك من محاولة إلزام الخصم، بعدم الانصياع إلى الحق ليس إلّا، تلك المحاولة التي تلقّح الأوهام والشكوك وتسد الطريق إلى العقل.. ونظرتَ إلى حيوان صغير لا يُرى إلّا بالمجهر، ورأيت ما تشف تلك الماكنة الصغيرة الدقيقة، الماكنة الإلهية البديعة، عن وجودٍ منتظم متناسق فيه، فلا تستطيع أن تُقنع نفسَك وتطمئنها، بأن هذه الآلات الدقيقة ناشئة من مَصنع الأسباب الطبيعية الجامدة التي لا شعور لها ولا حدّ لمجالها ولا أولوية لإمكاناتها، إلّا إذا استطعت رفع المحالات الناشئة من اجتماع الضدّين، أي وجود القوة الجاذبة والدافعة في تلك الذرة التي لا تتجزأ.

فإن كانت نفسُك تجد احتمالًا في هذه المحالات، فسيُرفع اسمك من سجل الإنسانية!.

ولكن يجوز أن يكون الجذب والدفع والحركة التي هي أساس كل شيء -كما يظنون- أسماءَ وعناوينَ قوانينِ الله الجارية في الكون. ولكن بشرط ألّا تتحول القوانين إلى طبيعة فاعلة، وألّا تخرجَ من كونها أمرًا ذهنيًا إلى أمر خارجي مُشاهَد، وألّا تتحول من كونها شيئًا اعتباريًا إلى حقيقة ملموسة، ولا من كونها آلة تتأثر إلى مؤثر حقيقي.

﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَۙ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ (الملك:3) كلا! فالمُبصِر لا يرى نقصًا، إلّا إن كان أعمى البصرِ والبصيرةِ، أو مصابًا بقصر النظر!

فإن شئت فراجع القرآن الكريم، تجدْ دليل العناية بأكملِ وجهٍ من الوجوه الممكنة، لأن القرآن الكريم الذي يأمر بالتفكر في الكون، يعدّد أيضًا الفوائدَ ويذكّر بالنِعم الإلهية.. فتلك الآيات الجليلةُ مَظاهرُ لهذا البرهانِ، برهانِ العناية.

استمسِكْ بما ذكرناه، فإنه إجمالٌ، أما التفصيل فنفسّره في الكتب الثلاثة التي عقدنا العزم على كتابتها لبحث علم السماء والأرض والإنسان، كمنهجِ تفسير في الآفاق والأنفس، إن شاء الله ووفق. وعندها تجد هذا البرهان بوضوح تام.

الدليل القرآني الثاني: دليل الاختراع

وخلاصته: أن الله تعالى قد أعطى كلَّ فرد، وكل نوع، وجودًا خاصًا، هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة. فلا نوعَ يتسلسلُ إلى الأزل، لأنه من الممكنات. فضلًا عن أن حدوث قسم منها مشاهَد، وقسم آخر يراه العقلُ بنظر الحكمة.

إن انقلاب الحقائق محالٌ، وسلسلة النوع المتوسط لا تدوم، أما تحوّل الأصناف فهو غيرُ انقلاب الحقائق.

ولما كان لكلِّ نوع آدمُ وجدٌّ أكبر، فالوهم الباطل الناشئ من التناسل في سلسلة كل نوع لا يسري إلى أولئك الآدميين والأجداد الأوائل؛ إذ إن الفلسفة وعلم الجيولوجيا وعلم الحيوان والنبات، تشهد أن الأنواع التي يزيد عددها على مئتي ألف نوع، كلٌّ منها له مبدأ وأصل معين، وجدٌّ أكبر، بمثابة آدم لذلك النوع، وكل مبدأ منها قد حدث حدوثًا مستقلًا عن غيره. وكل فرد من هذه الأنواع الوفيرة كأنه ماكنة بديعة عجيبة تبهر الأفهام، فلا يمكن أن تكون القوانينُ الموهومة الاعتبارية والأسبابُ الطبيعية العمياء الجاهلة، موجِدةً لهذه السلاسل العجيبة من الأفراد والأنواع، بل هي عاجزةٌ عجزًا تامًا عن إيجادها.. أي إن كل فرد، وكل نوع، يُعلن بذاته أنه صادر صدورًا مستقلًا عن يد القدرة الإلهية الحكيمة.

نعم، إن الصانع الجليل قد ختم في جبهة كل شيء ختمَ الحدوث والإمكان.

إن قبول احتمال تَشكُّل الأنواع من أزلية المادة وحركة الذرات العشوائية وغيرها من الأمور الباطلة، إنما هو لمجرد إقناع النفس بشيء آخر غيرِ الإيمان بالله، ولا ينشأ هذا الاحتمال إلّا من عدم الإدراك، ومن فساد الفكر، بالنظر السطحي العابر. ولكن ما إن قصدَ الإنسانُ وتَوجَّه بالذات إلى إقناع نفسه، فإنه سيقف على محالية الفكرة وبُعدها عن المنطق والعقل. ولو اعتقدها فلا يعتقدها إلّا اضطرارًا بالتغافل عن الخالق سبحانه.

إن الإنسان -المكرّم من حيث جوهر إنسانيته- يبحث دومًا عن الحق، ويتحرّى الحقيقة دائمًا، وينشد السعادة على الدوام. ولكن أثناء بحثه عن الحق يعثر على الباطل والضلال دون أن يشعر، وأثناء تنقيبه عن الحقيقة يقع الباطل على رأسه بلا اختيار منه، أو كلما خاب في الحصول على الحق ويئس من وجدان الحقيقة قَبِل -مضطرًا- أمرًا محالًا وغير معقول، يَقبله بالنظر السطحي والتبعي، مع أنه يعرف يقينًا بفطرته الأصلية ووجدانه وفكره أنه محال.

خذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار وضعها نصب العين:

إن ما يتوهمونه من أزلية المادة والحركة، من جراء تغافلهم عن نظام العالم.. وما يتخيلونه من مصادفةٍ عشواءَ في الصنعة البديعة التي تبهر العقول.. وما يعتقدونه من تأثير حقيقي للأسباب الجامدة، رغم شهادة جميع الحِكَم على عدم تأثيرها.. وما يغالطون به أنفسهم ويتسلّون به من إسناد كل شيء إلى الطبيعة الموهومة المتخيلة المتجسمة، بسبب اسـتمرار إغواء الوهم.. تردّه فطرتهم وترفض هذه المحالات والأوهـام.

ولكن متى ما توجه الإنسانُ إلى الحق يقصده، تعرض له على جانبي الطريق هذه الأوهامُ، من دون دعوة منه ولا طلب. فمن سدّد النظر إلى غرضه ونَصَبَ هدفه أمام عينه، نظر إلى الأوهام الباطلة نظرَ العابر السطحي، من دون أن ينفذ إلى باطنها المليء باللوثات؛ وإذا ما توجّه إليها شاريًا لها يراها لا تستحق حتى الالتفات إليها فكيف بالشراء! بل يشمئز وجدانُه منها ويستحيلها عقلُه ويمجّها قلبُه، إلّا أن يشاغب، وتستفزّه السفسطة؛ فيقبل في كل ذرةٍ عقلَ الحكماء وسياسة الحكام! كي تتشاور كلُّ ذرة وتتحاور مع أخواتها على الاتفاق والانتظام. فهذا المسلك -وهذا شأنه- لا يقبله حتى الحيوان! ولكن ما الحيلة فإن لازم البينة من المسلك نفسه، وهذا المسلك لا يصوّر إلّا بهذه الصورة.

نعم، إن شأن الباطل هو أنه إذا نظر إليه الإنسان نظرَ التبعيِّ العابر يُعطَى له صحة الاحتمال، بينما إذا أنعم النظر فيه يُرفع ذلك الاحتمالُ ويُدفع.

إن ما يسمونه بالمادة لا تتجرد عن الصورة المتغيرة ولا عن الحركة الحادثة الزائلة، أي إن حدوثها محقق. فيا ترى إن من يضيق عقلُه عن إدراك أزلية الله سبحانه -وهي صفة لازمة ضرورية للذات الجليلة- كيف يتسع عقلُه لأزلية المادة التي تنافي الأزليةَ منافاة مطلقة.. حقًا إن هذا شيء عُجاب. حتى يندم الإنسان على إنسانيته كلما فكر في هؤلاء الذين يحيلون هذه المصنوعات البديعة إلى المصادفة العمياء وحركةِ الذرات ويستغربون صدورَها عن الصانع الجليل المتصف بجميع الصفات الكمالية.

إن القوى والصور الحاصلة من حركة الذرات -كما يدّعون- لا تشكّل المباينةَ الجوهرية للأنواع، بسبب عَرَضيتها، فالعرَض لا يكون جوهرًا قط. بمعنى أن فصول هذه الأنواع والخواص المميزة لعموم الأعراض إنما هي مخترَعةٌ من العدم الصِّرف. والتناسلُ في التسلسل إنما هو الشرائط الاعتيادية.

فهذا إجمالُ دليل الاختراع وإن شئت تفصيلَه بوضوح فادخل جنان القرآن الكريم، فإنه مامن رطب ولا يابسٍ إلّا وتفتح في كتاب مبين زهرةً زاهية أو برعمًا لطيفًا.

فإن شاء الله تعالى، ووفقني، وسمح الأجَل، سأعرض اللآلئ التي تزيِّن هذا البرهان مستخرِجًا إياها من أصداف ألفاظ القرآن.

إذا قلت: ما هذه الطبيعة والقوانين والقوى التي يُسَلُّون بها أنفسهم؟

فالجواب: أن الطبيعة هي شريعةٌ إلهية فطرية، أوقعتْ نظامًا دقيقًا بين أفعالِ وعناصرِ وأعضاءِ جسد الخليقة المسمى بعالم الشهادة، هذه الشريعة الفطرية هي التي تُسمى بالطبيعة والمطبعة الإلهية.

نعم، إن الطبيعة هي محصّلةُ وخلاصةُ مجموعِ القوانين الاعتبارية الجارية في الكون. أما ما يسمونه بـ«القوى» فكلٌّ منها حُكم من أحكام هذه الشريعة. أما القوانين فكل منها عبارة عن مسألة من مسائلها، ولكن لاستمرار أحكام هذه الشريعة واطّراد مسائلها، وتهيؤ النفوس التي ترى الخيالَ حقيقةً وتُريها هكذا، تَسلّطَ الخيالُ وضيقُ الفهم، فتجسمت الطبيعةُ حتى أصبحت موجودًا خارجيًا وتنزّلت من الخيال إلى المثال. وكم للوهم من حِيل تروجُ.

لا يَقنع العقل ولا ينجذب الفكر ولا يأنس نظرُ الحقيقة إلى كون آثار القدرة -التي تتحير منها العقول- صادرةً من صنعة هذه الطبيعة الشبيهة بالمطبعة، أو من أمور يسمونها قوى عامة. علمًا أنها تفتقر إلى قابليةٍ لتكون مصدرًا أو علّةً لوجود هذه الكائنات. فليس إذن إلاّ التغافلُ عن الله الحكيم وإلاّ الاضطرارُ المتولد من إلجاءات الانتظام الجاري في الكون فيتخيلون الطبيعة مصدرًا، وهي ليست إلّا مِسطرًا، وما محاولة إنتاج الملزوم الأخص من اللازم الأعم إلّا قياسٌ عقيم. وهذا القياس العقيم فَتَح الطرقَ الكثيرة إلى أودية الضلالة والحيرة.

إن الشريعة -والقانون- هي نظام الأفعال الاختيارية، فمع كثرة المخالفات والخروقات، يتصور كثير من الجهلة كأن الشريعة حاكم روحاني، ويتصورون النظام كأنه سلطان معنوي، فيتخيلون أن لهما تأثيرًا.

فالبدوي الذي لم يرَ الحضارة، إذا ما شاهد حركاتِ الجنود في طابور، حركةً مطردة وأطوارًا منسقة وأحوالًا مرتبطة، ظن أن هؤلاء الأفراد العديدين أو الهيئة العسكرية مرتبط بعضُهم ببعض بحبل معنوي!

أو أن شخصًا عاميًا أو ذا طبع شاعري، تراه يتصور النظام الذي يربط الناس بعضهم ببعض موجودًا معنويًا، أو يتصور أن الشريعة خليفة روحانية، وهكذا يُغالي مَن يتصور الشريعة الفطرية الإلهية المتعلقة بأحوال الكائنات، أنها الطبيعة، تلك الشريعة التي لم تخرق إلّا تصديقًا للأنبياء وتكريمًا للأولياء إذ هي مستمرة دائمة. فكيف لا تتجسم الأوهامُ على هذا النمط من التصورات؟

كما أن استماع الإنسان وتكلّمَه وملاحظته وتفكره جزئيةٌ تتعلق بشيء فشيءٍ على سبيل التعاقب، كذلك همتُه جزئيةٌ لا تشتغل بالأشياء إلّا على سبيل التناوب؛ فبوساطة التعاقب يتعلق بشيء فحسب وينشغل به.

ثم إن قيمةَ الإنسان بنسبة ماهيته، وماهيتُه بدرجة همّته، وهمتُه بمقدار أهمية المقصد الذي يشتغل به.

ثم إن الإنسان إلى أي شيء تَوجَّهَ يفنى فيه، وينحبس عليه، وكأنه يكون مصداقَ: «الفناء في المقصد» فبناء على هذه النقطة ترى الناس -في عُرفهم- لا يُسندون شيئًا خسيسًا وأمرًا جزئيًا إلى شخص عظيم، بل إلى الوسائل، ظنًا منهم أن الاشتغال بالأمر الخسيس لا يناسب وَقاره، وهو يربأ بنفسه عنه، ولا يسع الأمرُ الحقير همتَه العظيمة، ولا يوازَن الأمر الخفيف مع همته العظيمة.

ثم إن من شأن الإنسان إذا تفكر في شيء، أن يتحرى مقاييسه وأسسه في نفسه، وإن لم يجدها ففيما حوله وفي أبناء جنسه، حتى إنه إذا تفكر في واجب الوجود المنزّه عن الشبه بالممكنات، تُلجئه قوتُه الواهمة إلى أن يجعل هذا الوهمَ السيئ المذكور دستورًا، والقياسَ الخادع منظارًا، مع أن الصانع جلّ جلالُه لا يُنظر إليه من هذه النقطة، إذ لا انحصار لقدرته، لأن قدرتَه وعلمَه وإرادتَه جلّ جلالُه كضياء الشمس –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى– شاملةٌ لكل شيء، وعامةٌ لكل أمر؛ فكما تتعلق بأعظم شيء تتعلق بأصغَره وأخسّه. فمقياسُ عظمته تعالى وميزانُ كماله سبحانه مجموعُ آثاره، لا كل جزء منه، إذ لا يصلح أن يكون مقياسًا.

وهكذا فقياس واجب الوجود بالممكنات قياسٌ مع الفارق، ومن الخطأ المحض المحاكمةُ العقلية بالوهم الباطل المذكور.

فبناء على هذا الخطأ المشين للأدب، وتسلُّط الوهم الباطل، اعتقدَ الطبيعيون تأثيرَ الأسباب تأثيرًا حقيقيًا، وادّعى المعتزلة أن الحيوان خالقُ لأفعاله الاختيارية، ونفى الفلاسفةُ علمَ الله بالجزئيات، وقال المجوس: إن للشر خالقًا غيرَه تعالى؛ إذ ظنوا وتوهموا أن الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنزُّهه، كيف يتنزل إلى الاشتغال بمثل هذه الأمور الجزئية الخسيسة. فتبًّا لعقولهم التي حبست نفسَها أسيرة في هذا الوهم الباطل.

أيها الأخ! إن هذا الوهم إن لم يَرد من جهة الاعتقاد، فقد يَستحوِذ على المؤمنين من حيث الوسوسة.

فإن قلت: إن دليل الاختراع هو إعطاء الوجود، وإعطاءُ الوجود يصاحب إعدامَ الموجود، بينما عقولُنا لا تستوعب ظهور الوجود من العدم الصِّرف، وانقلابَ الوجود المحض إلى العدم المحض.

فالجواب: يا هذا ! إن ما تستصعبونه وتستغربونه في تصوركم هـذه المسألةَ، هو النتيجة الوخيمة لقياس خادع مضلّ، إذ تقيسون الإيجادَ والإبداع الإلهي بكسب العبد وصَنعته، والعبدُ عاجز عن إماتة ذرة وإحيائها، وليس له إلّا الصنعة والكسب في الأمور الاعتبارية والتركيبية.

نعم، إن هذا القياس خَدَّاع لا ينجو الإنسان منه.

وحاصل الكلام: لمّا لم يرَ الإنسانُ في الكائنات قدرةً وقوةً تتملكها الممكنات إلى درجة تتمكن بها الإيجادَ من العدم المحض، وبَنَى حُكمَه على مشاهداته وأنشأه منها، إذ نظر إلى الآثار الإلهية من جهة الممكنات، بينما عليه أن ينظر إليها من جهة القدرة الإلهية الثابتة بآثارها المحيرة للألباب… فتراه يفرض الصانعَ الجليل في قوةِ وقدرةِ العباد الذين لا تأثير لهم إلّا في الأمور الاعتبارية. أي في قوة موهومة. فينظر إلى المسألة من هذه الزاوية، مع أنه يجب عليه أن ينظر إليها من جانب القدرة التامة للواجب الوجود.

إشارة: إذا أُخذت آثارُ أحد من الناس بنظر الاعتبار في محاكمة عقلية، يجب أخذ خاصته أيضًا. ولكن لأنه لم تؤخذ هذه القاعدة في هذه المسالة، فقد نُظر إليها من خلال عجز العبد تحت ستار القياس التمثيلي لقدرة الممكنات. بينما نرى في تكوين العالَم أن الله سبحانه وتعالى يخلق قسمًا من الممكنات بالإبداع -أي بدون مادة- وقسمًا آخر بالإنشاء – أي ينشئُه من المادة – وهكذا بث في الوجود هذه الآثارَ المعجزة الباهرة، وأظَهَرَ قدرتَه المطلقة بجلاء.

فالإنسان إذا صرف نظرَه عن هذا، ورأى الغائب بصورة الشاهد بقياس خادع أو وَضَع أبناء جنسه في المحاكمة العقلية، أي لو نظر إلى واجب الوجود من هذه الزاوية المحددة، تَوَهم أن كثيرًا من الأمور المعقولة التي يستصوبها العقل السليم غير معقولة.

فلو صرفنا النظر عن المخترعات، فإن القوانين العجيبة للضوء -وهو نور عين العالم وأنور المصنوعات- ونواميسَه البديعة المصغرة في بصر الإنسان في ترسيماتها على شبكيته التي أعيَا العقولَ حلُّها.. أقول: إذا قيست هذه التي تُعدّ بعيدة عن العقل بكمال القدرة الإلهية لرآها الإنسان مأنوسة مألوفة وبين أهداب عين العقل وبصره.

وكما أن النظريات تُستنتج من الضروريات، كذلك ضروريات آثار الله وصنعته دليل -وأيّ دليل- على مخفيات صنعته. وكلاهما معًا يثبت هذه المسألة.

فهل يمكن أن يَتصور العقلُ أدقَّ وأعجبَ وأغربَ من صنعة الله في نظام العالم، وأبعدَ من جنس الممكنات وقدرتها؟ لاشك لا يَتصور، لأن الحِكَم والفوائد التي بينتها العلومُ تشهد بالضرورة على قصدِ الصانع وصنعتِه وحكمته، حتى اضطرت العقولُ إلى قبولها. وإلّا فالعقل بمفرده لا يقبل أصغر حقيقة من هذه البديهيات.

نعم، إن الذي حمل الأرضَ ورفعَ السماوات بغير عمَد وسخّر الأجرام وأدخلَ الموجودات تحت نظام فلا يعصونه في أمره. كيف يُستغرب منه أن يحمل ما هو أخف وأسهل بدرجات لا تقدّر.

نعم، إن الشك في قدرة من يرفع الجبل عن أن يرفع صخرة ليس إلّا سفسطة.

الحاصل: كما أن القرآن يفسر بعضُه بعضًا، كذلك سطورُ كتاب العالم يفسّر ما وراءه من إتقان وحكمة.

إذا قلت: يظهر من كلام قسم من المتصوفة معنى الاتصال والاتحاد والحلول؛ فيُتوهم من كلامهم وجودُ علاقة مع مذهب وحدة الوجود الذي يتبناه قسمٌ من الماديين.

الجواب: إن شطحات محققي الصوفية، التي هي من قبيل المتشابهات، لم يفهمها هؤلاء، إذ إن مسلكَهم المبني على الاستغراق وحصرِ النظر في الذات الإلهية والتجرّدِ من الممكنات قد ساقهم إلى أن يكونَ مطمحُ نظرهم رؤيةَ النتيجة ضمن الدليل، أي سلكوا مسلك رؤيةِ الصانع الجليل من خلال العالم!. فعبّروا عن جريان التجليات الإلهية في جداول الأكوان، وسَرَيانِ الفيوضات الإلهية في ملكوتية الأشياء، ورؤيةِ تجلي أسمائه وصفاته سبحانه في مرايا الموجودات… عبّروا عن هذه الحقائق -لضيق الألفاظ- بالألوهية السارية والحياة السارية. هذه الحقائق لم يفهمها أولئك، إذ طبقوا شطحات المحققين الصوفيين على أوهام واهية ناشئة من سوء الفهم وفقر الاستعداد.. فسُحقًا وبُعدًا لعقولهم.

إن الأفكار المجردة للعلماء المحققين التي هي بسمو الثريا أبعدُ بكثير من أفكارٍ سافلةٍ للمقلدين الماديين التي هي في دركات الثرى.

نعم، إن محاولة تطبيق هذين الفكرين، في هذا العصر، عصرِ الرقي، دليلٌ على إصابة العقل البشري بسكتة دماغية. وتنظرُ الإنسانية إلى هذا الأمر نظرَ الأسف والأسى وتضطرُ إلى أن تقول بلسان مواهبها وقابلياتها للرقي والتحقيق العلمي: [كلا.. والله.. أين الثرى من الثريا، وأين الضياء من الظلمة الدامسة].

إشارة: إن هؤلاء هم أصحاب «وحدة الشهود»، ولكن قد يعبَّر عنهم مجازًا بأهل «وحدة الوجود»؛ حيث إن وحدة الوجود -على حقيقته- مسلكٌ باطل لقسم من الفلاسفة القدماء.

تنبيه: لقد قال رئيسُ هؤلاء المتصوفة وكبيرُهم: «من ادّعى الاتصال أو الاتحاد أو الحلول، لم يشمّ من معرفة الله شيئًا»… كيف يتصل أو يتحد الممكن بالواجب؟ بل أيّ قيمة للممكن حتى يحل فيه الواجب، تعالى الله وتقدّس عما توهم المتوهمون.

نعم، يتجلى فيضٌ من فيوضات الله في الممكن. فمسلك هؤلاء لا علاقة له ولا مناسبة فيه مع أولئك، ولا تماس بينهما قطعًا، لأن مسلكَ الماديين حصرُ النظر في المادة والاستغراقُ فيها، حتى تجردت أفكارُهم وتعرّت أذهانُهم عن فهم الألوهية وابتعدوا عنه، بل أعطوا المادة قيمةً وأهمية عظيمة حتى رأوا فيها كل شيء، بل ولَج قسمٌ منهم في مسلك دنيء حيث مزجوا الألوهية بالمادة.

أما أهل «وحدة الشهود» -وهم المحققون الصوفيون- فقد حصروا نظرهم في واجب الوجود حتى لم يروا للممكنات قيمة، فقالوا: «هو الموجود».

الإنصاف الإنصاف أيها الناس! فالبُعد بين المذهبين بُعدُ الثرى عن الثريا. أُقسم بالله الذي خلق المادة بأنواعها وأشكالها، لا أرى في الدنيا أبشع وأخسّ وأنعى على صاحبه بانحراف مزاج عقله من الرأى الأحمق الذي ينتج التماسّ بين هذين المسلكين.

تنوير:

لـو افتُرض -مثلًا- أن الكرة الأرضية قد تشكلت مـن قِطَع زجاجية صغيرة جدًا ومختلفة الألوان، فلا شك أن كل قطعة ستستفيض من نور الشمس حسب تركيبها وجرمها ولونها وشكلها.

فهذا الفيض الخيالي ليس الشمسَ بذاتها ولا ضياءَها بعينه.

فلو نطقت ألوانُ الأزهار الزاهية المتجددة والتي هي تجليات ضياء الشمس وانعكاسات ألوانه السبعة، لقال كل لون منها: إنَّ الشمس مثلي، أو إن الشمس تخصّني أنا.

آنْ خَياَلَاتِى كِه دَامِ أَوْلِياسْت  عَكْسِ مَهْرُويَانِ بُوسْتاَنِ خُدَاسْت([1])

ولكن مشرب أهل وحدة الشهود هو: الصحو والتمييز والانتباه، بينما مشرب أهل وحدة الوجود هو: الفناء والسُكر. والمشرب الصافي هو مشرب الصحو والتمييز.

«تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ الله وَلَا تَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ فَإنَّكُمْ لَنْ تَقْدِرُوا»

حَقِيقَةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا  فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ ذِي الْقِدَمِ

هُوَ الَّذِي أبْدَعَ اْلأشْياَ وَأنْشَأَهَا  فَكَيْفَ يُدْرِكُهُ مُسْتَحْدَثُ النَّسَمِ

تنبيه: هذه هي الدلائل الإجمالية لوجود الصانع، سَتَرِد تفاصيلها في الكتب الثلاثة.

إذا قلت: أريد بيان دلائل التوحيد ولو إجمالًا.

أقول: إن دلائل التوحيد أكثر بكثير من أن يضمها هذا الكتاب. وما تضمنته الآية الكريمة: ﴿لَوْ كَانَ فيهِمَٓا اٰلِهَةٌ اِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتَاۚ (الأنبياء:22) من برهان التمانع دليلٌ كافٍ، ومنار ساطع على هذا المنهاج.

نعم، الاستقلال خاصةٌ ذاتية ولازم ضروري للألوهية.

إن تشابهَ آثار العالم، وتعانقَ أطرافه، وأخذَ بعضِه بيد بعض، وتكميلَ بعضه انتظام البعض الآخر، وتجاوبَ الجوانب، وتلبيةَ بعض لسؤال بعض، ونظرَ الكل إلى نقطة واحدة، وحركةَ الكل بالانتظام على محور نظام واحد، تلوّحُ بوحدانية الصانع بل تصرح بأن صانع هذه الماكنة الواحدة واحد. وتتلو على الكل:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

إن الأبعاد الشاسعة غير المتناهية للآفاق صحائفُ كتاب العالم

والآثار التي لا تعد سطورُ كائنات الدهر

لقد طُبعت في لوح الحقيقة المحفوظ:

إن كل موجود لفظٌ مجسّم حكيم.

لا شك أن الشاعر الفاضل «تحسين» لا يقصد بغير المتناهي وغير المعدود معناه الحقيقي وإنما الأمر النسبي.

إشارة: إن الصانع الجليل متصف بجميع الأوصاف الكمالية، لأنه من المقرر أن ما في المصنوع من فيض الكمال، مقتبسٌ من ظلِّ تجلِي كمال صانعه، فبالضرورة يوجد في الصانع جلَّ جلالُه من الجمال والكمال والحسن ما هو أعلى بدرجات غير متناهية حتمًا من عموم ما في الكائنات من الحسن والكمال والجلال؛ إذ الإحسان فرعٌ لثروة المُحسن ودليل عليها، والإيجاد، لوجود المُوجِد، والإيجابُ لوجوب الموجب، والتحسين لحُسن المحسّن المناسب له.

وكذلك إن الصانع منزّه عن جميع النقائص، لأنها تنشأ من عدم استعداد ماهيات الماديات، وهو تعالى مجرّدٌ عن الماديات، ومقدّس عن لوازمَ وأوصافٍ نشأت من إمكان ماهيات الكائنات، وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شيء جلّ جلالُه.

مقدمة:

إن قلت: لقد ذُكر في الديباجة أن الكلمة الثانية من كلمتي الشهادة شاهدةٌ على الأولى ومشهود عليها.

الجواب: نعم، إن أقوى منهج من بين المناهج المؤدية إلى معرفة الله، كعبةِ الكمالات، وأكثرَها استقامة، هو المحجةُ البيضاء التي سلكها صاحبُ المدينة المنورة ﷺ. ذلك المنهج الذي ترجمَه لسانُه الصادق المبارك العاكس كالمرآة لما في قلبه الشريف، الذي هو كمشكاة مطلّة على عوالم الغيب. فهو ﷺ روحُ الهداية، وأصدقُ شاهدٍ حيّ وأفصح برهان ناطق وأقطع حجة على الصانع الجليل؛ إذ من حيث الخليقة، ذاتُه برهان باهر، ومن حيث الحقيقة لسانُه شاهد صادق.

نعم، إن محمدًا ﷺ حجةٌ قاطعة على وجوده تعالى وعلى النبوة وعلى الحشر وعلى الحق وعلى الحقيقة. كما سيأتي تفصيله.

تنبيه: لا يلزم الدور؛ لأن صدقَه ثابتٌ بأدلة لا تتوقف على أدلة الصانع.

تمهيد: إن رسولنا الكريم ﷺ برهان على وجوده تعالى، لهذا يجب إثبات صدق هذا البرهان، ونتاجه وصحته صورةً ومادةً، نَخُو:


[1] أي «إن الخيالات التي هي شِراكُ الأولياء إنما هي مرآة عاكسة تعكس الوجوه النيرة في حديقة الله». والبيت لجلال الدين الرومي في مثنويه ج1/3 .