الرسالة الحادية عشرة ([1])

شعلة

من أنوار شمس القرآن


اعلم أن الفاطر الحكيم إنما ركّب في وجودك هذه الحواس، والحسيات، والجهازات لإحساس أنواع نِعَمه، ولإذاقة أقسام تجليات أسمائه.

فما غاياتُ حياتك وما حقوقها إلّا إظهارُك لآثار تجليات أسمائه، وتشهيرُ غرائبها لدى أنظار المخلوقات..

وما إنسانيتك؛ إلّا شعورُك بهذه الوظيفة.

وما إسلاميتك؛ إلا إذعانك بهذه المظهرية.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد من الله.. وبالله.. وعلى الله.. لله.. كما يليق بالله.. الحمد لله على «الحمد لله» بدور يدور بأنابيبَ في تسلسل وبتسلسل يتسلسل في دور دائرٍ بلا نهاية.

اَللَّهُمَّ إنا نقدّم إليك بين يَدَيْ كلِّ نعمةٍ ورحمةٍ، وبين يدي كلِّ عنايةٍ وحكمةٍ، وبين يدي كلِّ حياة ومماتٍ، وبين يدي كلِّ حيوانٍ ونباتٍ، وبين يدي كلِّ زهرةٍ وثمرةٍ، وبين يدي كلِّ صنعةٍ وصبغةٍ، وبين يدي كلِّ نظامٍ وميزانٍ، وبين يدي كلِّ سكونٍ وحركة في ذرات العالم ومركباتها شهادةً نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهوعلى كلِّ شيء قدير.. ونشهد أنّ محمدا عبدُه ونبيه وحبيبُه ورسوله أرسله رحمةً للعالمين.

اَللَّهُمَّ صلِّ على محمد بحرِ أنوارك، ومعدنِ أسرارك، وشمس هدايتك، وعين عنايتك، ولسان حجّتكَ، ومليك صنع قدرتك، ومثال محبتك، وتمثال رحمتك، وأحبّ الخلق إليك، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آلِ كلٍّ وصحبِ كلٍّ أجمعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى عبادك الصالحين من أهل السماوات والأرضين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

سبحانك يا مَن يُسبح بحمدك هذا العالمُ بلسان محمد عليه أفضل صلواتك وأتم تسليماتك.

سبحانك يا من تسبح لك الدنيا بآثار محمد عليه أنمى بركاتك.

سبحانك يا من تسبح بحمدك الأرضُ ساجدةً تحت عرش عظمتك بلسان محمدِها عليه أزكى تحياتك.

سبحانك يا من يُسبح لك المؤمنون والمؤمنات بلسان محمدهم عليه صلواتك أبدا سرمدا.

سبحانك أُسبّحك بلسان حبيبك محمد عليه أكمل صلاتك وأجمل سلامك، فتقبّل مني برحمتك كما تقبّلته منه.

اعلم أن عظمة وُسْعَةِ عمومِ آيةِ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه (الإسراء:44) اقتضتْ تفسيرا، فتوجهتُ إليها فترشحتْ متقطرةً منها في قلبي كلماتٌ مفسِّرات لها، وسُلَّم مرقاةٍ للصعود إليها. فهي منها وإليها. فإن أحببتَ أن ترشُف تلك القطرات المفسِّرات المترشحات من عُمان تلك الآية، والنازلات من سماوات عظمتها، فاستمع بقلب شهيد ما سيأتي واقرأ معي هذا:

سبحانك ما عرفناك -نحن معاشر البشر- حقَّ معرفتك يا معروفُ، بمعجزات جميع مصنوعاتك وبتوصيفات جميع مخلوقاتك، وبتعريفات جميع موجوداتك..

سبحانك ما أعظمَ سلطانَك وأوضحَ برهانَك!

سبحانك ما ذكرناك حق ذكرِك يا مذكورُ، بألسنة جميع مخلوقاتك، وبذوات جميع مصنوعاتك، وبأنفس جميع كلمات كتاب كائناتك..

سبحانك ما أجلّ ذكرَك!

سبحانك ما شكرناك حقّ شكرك يا مشكورُ، بأثنية جميع إحساناتك على أنظار ذوي البصائر، وبإعلانات جميع نِعَمك في سُوق الكائنات على رؤوس الأشهاد، وبشهادات نشائد جميع ثمرات رحمتك المُفْرغة تلك الثمراتُ في قوالب النظام والميزان..

سبحانك ما أوسعَ رحمتَك!

سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك يا معبودَ جميع ملائكتك وجميع مخلوقاتك بجميع أنواع العبادات وأصناف التمجيدات.

سبحانك ما سبّحناك حق تسبيحك يا مَن ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه.. آمنا.. نعم..

سبحانك يا من تُسبّحُ لك الملائكة بأجناسها المتفاوتة، بألسنتها المختلفة، بأذكارها المتنوعة.

سبحانك يا من تُسبّح لك هذه الكائناتُ بأفواه عوالِمها، وأركانِ عوالمها، وأعضاء أركانها، وأجزاء أعضائها، وجزئيات أنواعها، وحُجيرات جزئياتها، وبفُوَيْهَاتِ ذراتها وأثير ذراتها؛ بألسنة نظاماتها الحكيمة، وموازينها العالية، وأحوالها المنظومة، وكيفياتها الموزونة بصُنعك الحكيم.

سبحانك يا من تُسبِّح بحمدك الجنةُ بأفواهِ بساتينها بنشائد هي حورُها وقصائدُ قصورها، ومنظوماتُ أشجارها، ومتشابهاتُ ثمراتها الموزونة.. كما تسبّح لك أشباهُها هنا في ضرّتها.

سبحانك يا من يقلّب الليل والنهار وسخّر الشمس والقمر، تسبّح لك هذه السماوات، بمنظومات بروجها، بأفواه شموسها بكلمات نجومها، بلسان نظامها في ميزانها، وانتظامها في زينتها، وتلألئها في حشمتها، وانقيادها في مسخّريتها، وسكونتها في سكوتها، وحكمتها في حركاتها.

سبحانك يا من تُسبِّح لك طبقاتُ الجوبأفواه رعودها وبروقها ورياحها وسحابها وشهابها وأمطارها، بكلمات لمعاتها وقطراتها، بلسان نظامها في ميزانها في غاياتها وثمراتها.

سبحانك يا مَنْ تُسبِّح لك الأرضُ ساجدةً لعظمة قدرتك بمحمدها وقرآنها، بأفواه بحورها وجبالها وأنهارها وأشجارها، وبأصواتٍ واهتزازاتٍ صوتية -هما حيواناتها ونباتاتها- وبكلمات نورانية وحروف نورية -هما أنبياؤها وأولياؤها- بلسان نظامها وميزانها وحياتها ومماتها، وفقرها ويبسها، وتبرجها وتزينها، بإذنك الكريم وصُنعك الحكيم.

سبحانك يا من تسبح لك البحورُ بكلماتٍ -هي عجائبُ مخلوقاتها- وبمنظومات نغماتها بلسان نظامها وميزانها وحكمتها وغاياتها.

سبحانك يا مَن جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا، تسبّح لك الجبال بأفواه عيونها وأنهارها وأشجارها، بلسان نظاماتها وموازينها وغاياتها ومخازنها.

سبحانك يا من جعل من الماء كلَّ شيء حي.

ويا من تسبّح لك الحيوانات بأفواه حواسها وحسياتها وجهازاتها وأعضائها وصنعتها وصبغتها وعقولها وقلوبها، بألسنة نظاماتها وموازينها، وبأسئلة استعداداتها واحتياجاتها ودعواتها وتنعّماتها، في أمطارها، وتقلباتها في أطوارها وحياتها ومماتها.

سبحانك يا مَن تسبح بحمدك الهوامُ في الهواء عند دورانها بزمزمة هَزَجاتها بشكرك، والطيورُ في أوكارها مع أفراخها بسجعاتها ونغماتها شكرا لك، بلسان نظامهما وميزانهما، وصنعتهما ونقوشهما وزينتهما كما تناديان على إحسانك، وتصيحان على نعمتك بإظهار شكرك في وقت تلذذاتهما بثمرات نعمتك، وتنعماتهما بآثار رحمتك.. كما تسبّح بحمدك الحشرات في قرارها بدمدمتها، والوحوش في قفارها بغمغمتها بألسنة نظاماتهما وموازينهما وصورهما وأشكالهما وتنعماتهما الكريمة وتقلباتهما الحكيمة..

سبحانك ما ألطفَ صنعَك وما أنفذ حكمك!

سبحانك يا مَنْ تُسبّح لك الأشجارُ صريحا بغاية الوضوح عند انفتاح أكمامها، وتزايد أوراقها، وتكامل ثمارها، ورقص بناتها على أيادي أغصانها؛ بأفواه أوراقها الخضرة، وأزهارها المتبسمة، وأثمارها الضاحكة بلسان نظاماتها وميزانها وطعومها اللذيذة، وألوانها الجميلة، وروائحها اللطيفة، ونقوشها المستحسنة، وزينتها المستملحة.. كما تمجّدك وتنادي على كمال رأفتك، وتصف تجليات صفاتك، وتُعرّف جلوات أسمائك، وتفسر تحببك وسياستَك لمصنوعاتك؛ بما يترشح من شفاه ثمارها من قطراتِ لمعاتِ جلوات تحبُّبك وتعهّدك لمخلوقاتك..

سبحانك ما ألطفَ برهانك في إحسانك، وأزيَن لطفك في توددك!

سبحانك يا من تُسبّح لك النباتاتُ بكمال الوضوح والبيان عند تنوّر أزهارها وتبسُّمِ بناتها وانكشاف أكمامها واشتداد حبوبها، بأفواه أزاهيرها وسنابلها بكلمات حباتها المنظومة وبذورها الموزونة بلسان نظامها الأرقّ وميزانها الأدق.. كما تمجّدك وتعرّفك وتشفّ عن وجه تحببك، وتصف صفاتك وتذكر أسماءك وتفسر تودّدك وتعرفك إلى عبادك بما يتقطر من عيون أزاهيرها وأسنان سنابلها، من رشحاتِ جلواتِ توددك وتعرفك إلى مخلوقاتك.

سبحانك ما ألطفَ برهانَك وما أنوَرَه وما أحلاه وما أزيَنه!

سبحانك يا من أنـزل الحَديد فيه بَأس شَديد ومَنافع للناس، تسبِّح لك المعادنُ بأنواعها وأجناسها وأشكالها وخواصها وخاصياتها وفوائدها ونقوشها وتزييناتها، بلسان نظاماتها المرصوصة وموازينها المخصوصة.

سبحانك يا من تُسبّح لك العناصرُ باجتماعاتها المنتظمة بأمرك وقدرتك، وتركباتها الموزونة بإذنك وصنعك الحكيم.

سبحانك يا من تُسبّح لك الذراتُ بفُوَيهات تعيناتها ووظائفها بألسنة نظاماتها وموازينها، وعجزها المطلق في ذاتها مع حملها -بحولك- وظائفَ عظيمة، كما تشهد كلُّ ذرة منها على وجوب وجودك بلسان عجزها بنفسها عن تحمل ما لا تطيق هي على حملها من وظائفها العالية العجيبة في دقائق نظام الكون. حتى إن كلّا منها كمثل نحلة نحيلة حملت عليها نخلةً طويلةً، كما تشير كل ذرة منها إلى وحدتِك بنظر وظائفها وتوجه حركاتها إلى النظام العام المحيط الدال بالقطع على وحدة الناظم. ففي كل ذرة لك شاهدان على أنك واجب واحد. وفي كل شأن لك آيتان على أنك أحد صمد، بل وفي كل شيء لك شواهد وآيات على أنك واجبٌ واحد أحد صمد، جلّ جلالُك، ولا إله غيرُك، وحدك لا شريك لك.

 * * *

اعلم أن وجودك وحواسك وجوارحك إنما تنظر أولا وبالذات إلى صانعها الذي يربّيها ويدبّرها ووجوهُها متوجهةٌ إليه سبحانه، ولا تنظر إليك إلّا وظيفةً وبمقدار مالكيتك الموهومة.

فإن أشارت -لأجل حُسن تعهدك لها- إلى لمعةِ شعورك بكيفيةٍ حاصلةٍ من كسبك، فبالمشاهدة تصرّح بِعلمِ بارئها بما لا يحد من كيفياتها المنتظمة وأحوالها المتقنة.. وهكذا تُفصح بسائر أسمائه وصفاته المتجلية عليها.

وإن خَدَمَتْكَ بجهةٍ في دقيقة، خَدَمَتْ صانعَها بكل الوجوه في كل آن.. ومن خِدمتها تشهيرُها لغرائب آثار صنعة فاطرها الحكيم، وكذا امتثالُ الوظائف الفطرية المؤذنة بكمال الموازنة في سر التعاون المادي على لطائف رحمته تعالى ولفائفِ حكمته سبحانه. وكذا إعلاناتُها بلسان فهرستيَّتِها لغرائب الصنعة لمحاسن جلوات فاطرها الحكيم.

وإن نَظرتْ إليك بدرجة ما يصل إليها نظرُك السطحي وبمقدار ما يحيط بها علمُك الإجمالي، نظرتْ إلى صانعها بجميع ذراتها ومركباتها وكيفياتها وأحوالها، فما ميزان مالكيتك الموهومة إلا درجةُ نظرك وتصرفك فيها، وما هوإلا كقطرة من بحر، فاعرف حدَّك ولا تجاوز طورَك.

فوجودُك وتوابعه له وجهان: فبالوجه الناظر إلى الحق سبحانه له قيمة عالية غالية. وبالوجه الناظر إلى الخَلق لا قيمة له لفنائه وزواله.

إذ الوجه الأول يقول لك وللناظر: إنك صنعةٌ لطيفةٌ، وأثرٌ نظيف نـزيه لمن فطر السماوات والأرض. فحسبُك من الوجود وكمالِه ولذتِه وقيمته علمُك بأنك صنعةٌ للصانع الذي زيّن السماء بهذه النجوم والشموس، حتى صِرتَ أخا عزيزا صغيرا لهذا العالم، يخدمك أخوك الكبير.

والوجه الثاني يقول لك ناعيا باليُتم: إنك مجموعُ عناصر ترافقت باتفاقية عمياء، وعن قريب تتفرق بفراق أليم ومفارقة صماء. فلا تظلِم وجودَك بالتملّك ولا تَبْخَسْ حقَّه بقطعه عن الحق، المؤدي لإسقاطه من القيمة. فلا يقام له الوزنُ حينئذ؛ إذ قيمة ملايينِ سنة وألوفِ قنطار من هذا الوجود الأبتر المكفهر لا تساوي قيمةَ ذرة وآنٍ سيّالٍ لذلك الوجود المظهر المطهّر.. ألا ترى أنك ما اقتطعَك بارئُك اقتطاعا من مواد حاضرة، ولا أخذك أخذا من صُبْرة الكون، ولا اغترفَك اغترافا من بحر الوجود، كيفما اتفق؟ هل ترى في سُوق عالم الكون والفساد دكانا يُشترى منه العيون أومخزنا ادُّخر فيه الأدمغة والألسنة، أوماكينة تَصنع القلوب وتنسج الجلود؟ كلا ثم كلا! بل أنشأك بارئُك، واخترعك فاطرُك بصورة بديعة جامعة، وخلقك من شيءٍ كَلاشيءٍ، أومن كل شيء، حتى لا يطمع شيءٌ من الأشياء -ولوأعظمَ الأشياء الممكنة- في خلق شيء من الأشياء ولوأصغر الأشياء، وحتى لا يتطاول إلى دعوى خلق ذبابة مثلا من لا يقتدر على خلق السماوات.

فمن لا يقتدر على خلق كلِّ شيءٍ لا يقتدر على خلقِ شيءٍ مّا من الأشياء.

اعلم أن المادة التي يتصرف فيها الصانع الماهر فيُظهِر فيها صنعةً عجيبة قد لا تساوي قيمةُ تلك المادة عُشر مِعشار قيمة «الصنعة». كالزجاج الذي صُنع منه المرآة الإسكندرية مثلا. وقد تتوازن قيمةُ المادة والصنعة كالبقلواء النفيسة من يد طابخ حاذق، وقد تزيد عليها. وإن لكل من المادة وما فيها من الصنعة غاياتٍ وثمرات تغاير غاياتِ الآخر.

وأما مصنوعات الصانع الأزلي فأكثرها -بل كلُّها- من القسم الأول حتى كأن المصنوعَ صنعةٌ متجسمة، لاسيما ذوي الحياة، ولاسيما صغارِها التي تضاءلت فيها المادة وتلاشت في كثافة دقائق الصنعة، وقد يصير شيء واحدٌ غايةً لهما، لكن بجهتين كالرزق مثلا: فمن جهة المادة والحياة ما هوإلّا تغذٍ بتلذذ جزئي زائل لحفظ الحياة وبقائها.

وأما من جهة الصنعة المعلَنة المثمِرة لآثار جلواتِ الصانع، فالرزق كنـز عجيب لطيف، وخزينةٌ غريبة نظيفة، إذ في الرزق حينئذ التحسس بإحساس جميع النِعَم والشعور بها، والتذوق عند إذاقة أقسام تجليات أسماء الرزاق الكريم، والتشرف بها والتنوّر بفَهمها. فإن شئت فانظر إلى لسانك الذي هوواحد من ألوف آلات الارتزاق بالرزق المادي والمعنوي، كيف اشتمل هذا الجرم الصغير على جهازاتٍ ذائقاتٍ بعدد طعوم المذوقات. فإن انتبه وشَعَر ذواللسان شكرَ هذا اللسانُ بهذه الألسنة الدقيقات في جهازه، لطائفَ نِعَم مَن أذاقه برحمته هذه النعمَ اللذيذات.

نعم، ومن شُكرِ النعمةِ -بل ألذُّ من النعمة- الشعورُ بالإنعام، ودركُ التِفات المُنعِم.

اعلم أنه ما من مصنوع إلّا وهومنظوم، وما من مخلوق إلّا وهوموزون، قد أنشأه بارئُه صحيحا صريحا، وأنشده فاطرُه واضحا فصيحا. وإنّ ما يُرى في هذه الأشياء الدنيوية وما في أثاثات هذا البيت الفاني من «التنظيم» بحساب معدود وبنظام مسرود، ومن «التوزين» بموازين حساسة، والموازنة بمقاييس جساسة يرمزان بل يُفصحان بعظمة الحساب في الحشر وتحقق وجوده فيه، وإلى هيبة الميزان في عرصات القيامة، ووقوعه ووضعه فيها، إذ ما يشاهَد هنا ما هوإلّا بذور وأساسات ومباد ومبشّرات وشواهد وعلامات لمَا يتَسَنبلُ في الآخرة.

وإن كل ما نشاهد في هذا الكون ما هوإلَّا مصنوع، وأثرُ الصنعةِ عليه ظاهرٌ جلي، يكاد أن ينطق، ولا يُشاهَد صانعُه. وما يُتوهم من جنس الممكنات أنه صانعُ شيء، فهوأضعفُ وأعجز بمراتب غير محدودة من أن يكون صانعَه حقيقة. إذ لابد لتصنيع كل شيء وإنشائه لاسيما من جنس النباتات والحيوانات من آلات مختلفة، وتجهيزات متنوعة، وموازين حساسة كالموازين المستعملة في تركيب الأدوية والمعجونات. وليست فليس.. مع أن عند كل مصنوع ومعه وفوقه وفيه وتحته وقبله وآخره شيء، ومع ذلك الشيء كلُّ ما يلزم للمصنوع وجودا وبقاءً، وما ذلك الشيء إلّا من لمعات وتجليات أنوار قُدرةِ مَن خزائنه بين «الكاف والنون».

لكن، إنّ من الأسماء ما يقبل توسط الوسائط الظاهرية، فيتجلى ذلك الاسم في خلال الحُجُب، وخلفَ السرادقات؛ كالمتكلم، والرزاق، والوهاب، وأمثالها. وبعضها لا يقبل التوسيط ولوظاهريا؛ كالخالق، والموجِد، والمحيي، وأمثالها. كمثل السلطان مع النفر؛ ففي نفس أرزاقه وسلاحه ولباسه لا واسطة، وفي تحريكه وتعليمه وتوظيفه وتلطيفه تتوسط الوسائط، لكن بإذن السلطان. إلّا أن التوسط هنا لعجز سلطان البشر وضعفه. وهناك لعزة سلطان الأزل وعظمته.

اعلم أني رأيت على رأس شُجيرة نابتة في صخرة، نوعين من الثمرات، فتحيرت منه! فتحرّيتها فإذا أحد النوعين: ثمرتُها الخاصة بها يقال لها بالكردي «كِزْوان». والنوع الثاني كالباقلة بمقدار الأصابع، أوأصغر أوأكبر، مقوسة مجوفة كالمنـزل المعد للمسافرين. فأخذتُ من الثمرة الثانية واحدةً، وإذ فتحتها تسارعت إلى الطيران في الهواء طويرات، كالذر في الصغر، وهي التي تراها صافاتٍ كأخواتها من طويرات النمل والذباب، قبيل الغروب وهي ترقص في الضياء بجذبةِ الذكر، فلا تظنن أنهن لاهيات لاعبات؛ بل ما هن إلا مجذوبات ذاكرات للرحمن الذي يمسكهن في الهواء، وهي شبان وتُجعل لهن -وهي أجنة- هذه الباقلةُ -التي كما أنها لا تناسبهن لمخالفة الجنس ولا تناسب الشجيرة لمخالفة النوع- أوكارا كالأرحام لطيفةً حصينةً من أحسن الأوكار، فيها أرزاق نظيفة لذيذة.

فهذه الحالة تصرّح بأن هذه المعاملة إنما تصدر مِن نظرٍ وتدبير فوق نظرٍ هذا الجامد وهذه البهيمة؛ إذ لمّا لم يصلحا لهذا التدبير الحكيم؛ لزمتْ حوالة هذا التدبير على خارجٍ عليمٍ، وهذا الخارج المتصرف لابد من أول الأمر البتة أن يحيط بكل أفراد هذين النوعين في جميع أقطار الأرض. وكذا بما يتعلق بهما، وكذا بمهدهما بالضرورة القطعية. ولا يكون هكذا إلّا مَن هوعليمٌ بكل شيء، وقدير على كل شيء.

أسألك يا من يجوِّز تصرف غير الله في ملك الله، ويا من يقبَل إمكان وجود التصادف في بعض لطائف صنع الله! كيف تسمع، أم كيف تفهم، أم كيف تعلم هذه الشجيرةُ لسانَ الذبابة التي باضت على رأس غصنها، مودعة بيضاتها في يد حمايتها، حتى تشرع الشجيرة في ذلك الآن تتخذ بألطف شفقة أوكارا أمينة كأرحام الأمهات، أوأرحاما كالأوكار رفيعةً، ومهادا مهتزةً في الهواء. فتأخذ الشجيرة من خزينة الرحمة رزقا كافيا، وافيا، لذيذا، عزيزا. فتدخره في تلك الأوكار في سبيل الله لمن ليس من أبناء جنسها، ولا من جنس بناتها، بل لمسافرين هم وديعة الله. فما هذا «التجاوب» بين هؤلاء المصنوعات إلّا آية شاهدة بأنّ كليهما -بل الكل، بل كلّ ما في الكون- خُدام سيد واحد، وتحت تدبيرِ مربٍ واحد، وفي تربية مدبرٍ واحد، أحد صمد. آمنّا.

اعلم أن النظر إلى الهوام الذاكرات لفاطرها في جوالهواء بألسنة أحوالها وأطوارها ونقوشها المنظومة وأجسامها الموزونة المكتوبة كالكلمات المنقوشة كما تذكُر الله وتفهِّم ذكرَها لك -وإن لم تفهم هي بنفسها- بألسنتها المخصوصة وأصواتها الملفوظة، كأن كلَّ طُوَيرة منها كلمةٌ ناطقة بلسانها عينَ ما تنطق به ذاتها.. وكذا النظر إلى الحشرات المسبِّحات لخالقها في جوف الغبراء بألسنة نقوشها وتزيّناتها المكتوبة بقلم القدرة، كما تسبّح بكلامها الملفوظ المخصوص بها. لابد أن يفيدك أمورا أربعة:

فأولا: اطمئنان النفس بأنك في مأمن حصين وحصن أمين محاط من كل وجه بمولودات وأطفال وطفيلات تربيها شفقةُ عليم، وتدبّرها تربيةُ حكيم، وتزيّنها عناية كريم، وتحسن إليها رحمة رحيم. فأنت تحت نظر هذا العليم الحكيم الكريم الرحيم دائما..

وثانيا: لابد أن يفيدك ذلك النظر قناعة النفس، بأنك لستَ سدىً مهملا، غاربُك على عنقك تسرح كما تشاء، وأن لست موكولا مفوَّضا إلى نفسك العاجزة عن أدنى حاجاتك الغير المحدودة حتى تقعد ملوما محسورا، متوحشا عن عجزك المطلق وحاجاتك الغير المحصورة. لأجل أنك ترى في تلك الصغار نظاما تاما خاصا في عموميته، عاما في خصوصيته. وميزانا حساسا في وسعته، وجساسا بالاقتصاد والإمساك في عين سماحته.


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «نجم استقبال» بإستانبول سنة 1342هـ (1923م).