﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهۖ وَادْعُوا شُهَدَٓاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ ﴿23﴾ فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ ﴿24﴾﴾

مقدمة في تحقيق النبوة

اعلم أنه كما أثبتت الآيةُ السابقة أوّلَ المقاصد الأساسية القرآنية وهو التوحيد؛ كذلك تثبت هذه الآية ثانيَ المقاصد الأربعة وهو إثبات نبوّة محمّد عليه الصلاة والسلام بأكمل معجزاته الذي هو التحدّي بإعجاز القرآن. ولقد فصلنا دلائلَ نبوّته في كتاب آخر فلنلخِّص بعضها هنا في ستِّ مسائل:

المسألة الأولى

اعلم أن الاستقراء التام في أحوال الأنبياء مع الانتظام المطّرد المسمى بالقياس الخفيّ ينتج أن مدارَ نبوّة الأنبياء وأساسها وكيفية معاملاتهم مع أممهم -بشرط تجريد المسألة عن خصوصيات تأثير الزمان والمكان- يوجد بأكملِ وجهٍ في محمّد عليه الصلاة والسلام الذي هو أستاذُ البشر في سنِّ كمال البشر، فينتج بالطريق الأَوْلى وبالقياس الأَوْلَويّ أنه أيضاً رسولُ الله. فجميع الأنبياء بأَلسنة معجزاتهم كأنهم شاهدون على صدق محمّد عليه السلام الذي هو البرهانُ النَيِّر على وجود الصانع ووحدته فتأمل…

المسألة الثانية

اعلم أن كلَّ حال من أحواله وكلَّ حركة من حركاته عليه السلام -وإنْ لم يكن خارقاً- يلَوِّح بالمبدأ على صدقِه وبالمنتهى على حقانيته. ألا ترى أنه عليه السلام كيف كان حالُه في أمثال واقعة الغار التي انقطع -بحسب العادة- أملُ الخلاص، يقول بكمال الوثوق والاطمئنان والجدية: ﴿لَا تَحْزَنْ اِنَّ اللّٰهَ مَعَنَا﴾ (التوبة:40). فكما أن ابتداءه بالحركة -بلا مبالاةٍ لمعارض وبلا خوفٍ وتردّد مع كمال الاطمئنان- يدل على تمسكه بالصدق؛ كذلك تأسيسُه بانتهاء حركاته -لقواعدَ هي الأساس لسعادة الدارين- وإصابتُه للحق واتصاله بالحقيقة دليلٌ على حقانيته، فهذا فرداً فرداً. وأما إذا نظرتَ إلى مجموع حركاته وأحواله يتجلى لِعينك برهانُ نبوّته كالبرق اللامع. فتبصّر!

المسألة الثالثة

اعلم أن الزمان الماضيَ والحالَ (أي عصر السعادة) والاستقبالَ اتفقتْ على تصديق نبوّته كما أن ذاتَه دليل على نبوّته. ولنطالع هذه الصحُف الأربع:

فأولاً: نتبرك بمطالعة ذاته عليه السلام. ولابد أوّلاً من تصوّر أربع نكت:

إحداها: أنه «ليس الكَحَلُ كالتكحُّل» أي لا يصل الصنعيُّ والتصنعيُّ -ولو كانا على أكملِ الوجوه- مرتبةَ الطبيعيّ والفطريّ ولا يقوم مقامَه، بل فلتاتُ غلَطاتِ هيئةِ حركةِ الصنعي تومئ بمُزخرَفِيَّته.

والثانية: أن الأخلاق العالية إنما تتصل بأرض الحقيقة بالجدّية، وأن إدامة حياتها وانتظام مجموعها إنما هي بالصدق. ولو ارتفع الصدقُ من بينها صارت كهشيم تذروه الرياحُ.

والثالثة: هي أنه كما يوجد المَيل والجذب في الأمور المتناسبة، كذلك يوجد الدفعُ والتنافر في الأمور المتضادة.

والرابعة: هي «أن للكلِّ حُكماً ليس لكلٍّ» كقوّة الحبل مع ضعف خيوطه..

وإذا تفطنت لهذه النكت فاعلم أن آثار محمّد عليه الصلاة والسلام وسِيَره وتاريخ حياته تشهد -مع تسليم أعدائه- بأنه لعلى خُلق عظيم، وبأنه قد اجتمع فيه الخصائلُ العالية كافة. ومن شأن امتزاج تلك الأخلاقِ توليدُ عزةٍ للنفس وحيثيةٍ وشرفٍ ووقار لا تساعد التنـزّلُ للسفاسف. فكما أن علوّ الملائكة لا يساعد لاختلاط الشياطين بينهم؛ كذلك تلك الأخلاقُ العالية بجَمعها لا تساعد أصلاً لتداخُل الحيلةِ والكذب بينَها. ألا ترى أن الشخص المشتهر بالشجاعة فقط لا يتنـزّل للكذب إلّا بعُسر؟ فكيف بالمجموع؟ فثبتَ أن ذاتَه عليه السلام كالشمس دليلُ لنفسه..

وأيضاً إذا تأملتَ في حاله عليه السلام من الأربع إلى أربعين -مع أنّ من شأن الشبابية وتوقّدِ الحرارة الغريزية أن تُظهر ما يَخفى وتُلقي إلى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحِيَل- تراه عليه السلام قد تدرّج في سنينه وعاشرَ بكمال استقامةٍ ونهايةِ متانةٍ وغاية عفة واطّرادٍ وانتظامٍ. ما أومأ حالٌ من أحواله إلى حيلة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء. وبينما تراه عليه السلام كذلك إذ تنظر إليه وهو على رأس أربعين سنة -الذي من شأنه جعلُ الحالاتِ مَلَكةً والعاداتِ طبيعةً ثانية لا تخالَف- قد تكشّف عليه السلام عن شخصٍ خارق قد أوقعَ في العالم انقلاباً عظيماً عجيباً. فما هو إلّا من الله.

المسألة الرابعة

اعلم أن صحيفة الماضي المشتملةَ على قَصَص الأنبياء المذكورة على لسانه عليه السلام في القرآن برهانٌ على نبوّته بملاحظة أربع نكت.

إحداها: أنَّ من يأخذ أساساتِ فنٍ ويعرف العُقَد الحياتية فيه ويُحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدَّعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته في ذلك الفن.

النكتة الثانية: هي أنك إن كنت عارفاً بطبيعة البشر لا ترى أحداً يتجاسر وبلا تردد وبلا مبالاة بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو صغيراً.. في قوم ولو قليلين.. في دعوى ولو حقيرة.. بحيثيةٍ ولو ضعيفة. فكيف بمـَن له حيثيةٌ في غاية العظمة.. وفي دعوى في غاية الجلالة.. في قوم في غاية الكثرة.. في مقابلة عنادٍ في غاية الشدة مع أنه أميّ لم يقرأ.. يبحث عن أمور لا يستقلّ فيها العقلُ ويُظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد. أفلا يدلّ هذا على صدقه وأنه ليس منه بل من الله؟.

الثالثة: هي أن كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدَنيين -بِتعليم العادات والأحوال وتلقين الوقوعات والأفعال- مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فبناءً عليه لابد لمـَن يحاكِم ويتحرى حال البدويين -لا سيما في القرون الخالية- أن يفرض نفسَه في تلك البادية.

الرابعة: هي أنه لو ناظرَ أميّ علماءَ فنٍّ -ولو فنَّ الصرف- ثم بيّن رأيه في مسائله مصدِّقاً في مظان الاتفاق، ومصحِّحاً في مطارح الاختلاف؛ أفلا يدلّك ذلك على تفوّقه، وأن علمه وهبي؟.

إذا عرفت هذه النكت: فاعلم أن محمّداً العربيّ عليه السلام مع أميّته قصّ علينا بلسان القرآن قصَصَ الأولين والأنبياء قصةَ مَنْ حضرَ وشاهَد، وبيّن أحوالَهم وشرحَ أسرارَهم على رؤوس العالم في دعوى عظيمة تجلب إليها دقةَ الأذكياء. وقد قصّ بلا مبالاة، وأخذ العُقَد الحياتية فيها وأساساتها مقَدَّمة لمدّعاه، مصدِّقاً فيما اتفقت عليه الكتبُ السالفة، ومصحِّحاً فيما اختلفت فيه. كأنه بالروح الجوّالِ المَعكسِ للوحي الإلهي طيَّ الزمانَ والمكانَ، فتداخل في أعماق الماضي فبيّن كأنه مشاهِد. فثبت أن حاله هذه دليل نبّوته وإحدى معجزاته. فمجموعُ دلائل نبوّة الأنبياء في حُكمٍ دليلٍ معنويٍ له، وجميعُ معجزات الأنبياء في حُكم معجزة معنوية له.

المسألة الخامسة

في بيان صحيفة عصر السعادة لا سيما مسألة جزيرة العرب. فها هنا أيضاً أربع نكت:

إحداها: أنك إذا تأملتَ في العالم ترى أنه قد يتعسر ويستشكل رفعُ عادةٍ ولو حقيرةً في قوم ولو قليلين. أو خصلةٍ ولو ضعيفةً.. في طائفةٍ ولو ذليلين.. على مَلِك ولو عظيماً.. بهمّة ولو شديدة. في زمان مديد بزحمة كثيرة. فكيف أنت بمَن لم يكن حاكماً، تشبثَ في زمان قليل بهمّة جزئية -بالنسبة إلى المفعول- وَقَلَعَ عاداتٍ وَرَفَعَ أخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستُؤنس بها نهاية استيناس واستمرت غايةَ استمرار، فغرسَ فجأةً بَدَلَها عاداتٍ وأخلاقاً تكمّلت دفعةً عن قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب. أفلا تراه خارقاً للعادات؟..

النكتة الثانية: هي أن الدولة شخصٌ معنويّ. تشكُّلُها تدريجيّ كنمو الطفل، وغلَبتُها للدولة العتيقة -التي صارت أحكامُها كالطبيعة الثانية لملّتها- متمهلةٌ. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكُّلِ الدول تشكيلُ محمّد عليه السلام لحكومةٍ عظيمةٍ دفعةً، مهيَّئةً لنهاية الترقي، متضمنةً للأساسات العالية الأبدية مع غلبتها للدول العظيمة دفعةً مع إبقاء حاكميته لا على الظاهر فقط، بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً.

النكتة الثالثة: هي أنه يمكن بالقهر والجبر تحكّمٌ ظاهريّ، وتسلّط سطحيّ. لكن الغلبةَ على الأفكار، والتأثيرَ بإلقاء حلاوته في الأرواح، والتسلطَ على الطبائع مع محافظةِ حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون إلّا من خوارق العادات.. وليس إلّا الخاصةُ الممتازة للنبوّة.

النكتة الرابعة: هي أن تدوير أفكار العموم وإرشادَها بحِيَل الترهيب والترغيب والخوف والتكليف إنما يكون تأثيرُها جزئياً سطحياً موقتاً يسدّ طريقَ المحاكمة العقلية في زمان. أما مَن نفذ في أعماق القلوب بإرشاده، وهيَّج دقائقَ الحسيات، وكشف أكمامَ الاستعدادات، وأيقظ الأخلاق، وأظهر الخصائل المستورة، وجعل جوهر إنسانيتهم فوّاراً، وأبرزَ قيمةَ ناطقيتهم؛ فإنما هو مقتبِسٌ من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة. بينما ترى شخصاً في قساوة قلبِه يقبُرُ بنتَه حيةً ولا يتألم ولا يتأثر إذ تراه بعد يوم -وقد أسلم- يترحّم على نحو النمل، ويتألم بألَم حيوان. فبالله عليك أَ ينطبق هذا الانقلاب الحسي على قانون؟

فإذا عرفت هذه النكت تأمّل في نقطة أخرى وهي: أن تاريخ العالم يشهد: أن الداهيَ الفريدَ إنما هو الذي اقتدر على إنعاش استعداد عموميّ، وإيقاظِ خَصلة عمومية، والتسببِ لانكشاف حسّ عموميّ؛ إذ مَن لم يوقِظ هكذا حسّاً نائماً يكون سعيُه هباءً موقتاً ولو كان جليلاً في نفسه.. وأيضاً إن التاريخ يرينا أن أعظمَ الناس هو الموفَّق لإيقاظ واحد أو اثنين أو ثلاث من هذه الحسِّيات العمومية: كحسّ الحَميّة الملّية، وحس الأخوّة، وحس المحبة، وحس الحرية… الخ. أفلا يكون إذَن إيقاظُ ألوفٍ من الحسِّيات المستورة العالية، وجعلُها فوّارةً منكشفة في قوم بَدَوييّن منتشرين في جزيرة العرب تلك الصحراءِ الوسيعة، من الخوارق؟.. نعم! هو من ضياء شمس الحقيقة.

فيا هذا! مَن لم يُدخِل في عقله هذه النقطة نُدْخِل جزيرةَ العرب في عينه. فهذه «جزيرةُ..» بعد ثلاثة عشر عصراً وبعدَ ترقِي البشر في مدارج التمدّن! فانتخِب أيها المعانِد من أكملِ الفلاسفة مائةً، فليسعَوا مائةَ سنة فإن فعلوا جزءاً من مائة جزءٍ مما فعلَه محمّد العربي عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى زمانه… فإن لم تفعل -ولن تفعل- فاتّق عاقبةَ العناد! نعم، هذه الحالة خارقةٌ للعادة وإن هي إلّا معجزةٌ من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

واعلم أيضاً أن من أراد التوفيق يلزم عليه أن يكون له مصافاةٌ مع عادات الله، ومعارَفَةٌ مع قوانين الفطرة، ومناسبةٌ مع روابط الهيئة الاجتماعية. وإلّا أجابته الفطرةُ بعدم الموفَّقية جوابَ إسكات..

وأيضاً مَن تحرك بمسلك في الهيئة الاجتماعية يلزمه أن لا يخالفَ حركة الجريان العموميّ. وإلّا طيّرَه ذلك الدولابُ عن ظهره فيسقط في يده. فإذن مَن ساعده التوفيقُ في ذلك الجريان كمحمّد عليه السلام يثبت أنه متمسكٌ بالحق.

فإذا تفهمت هذا، تأمل في حقائق الشريعة مع تلك المصادمات العظيمة والانقلابات العجيبة، وفي هذه الأعصار المديدة تَرَها قد حافظتْ على موازنة قوانينِ الفطرة وروابطِ الاجتماعيات اللاتي بدقتها لا تتراءى للعقول مع كمال المناسبة والمصافاة معها. فكلما امتدّ الزمانُ تظاهرَ الاتصال بينها. ويتظاهر من هذه الحالة؛ أن الإسلامية هي الدين الفطريّ لنوع البشر وأنها حقٌ، لهذا لا ينقطع وإن رَقَّ. ألا ترى أن الترياق الشافي للسموم القاتلة في الهيئة الاجتماعية إنما هو أمثالُ: «حرمةِ الربا ووجوبِ الزكاة» اللتين هما مسألتان في أُلوف مسائل تلك الشريعة.

فإذا عرفت هذه النكت الأربع مع هذه النقط الثلاث، اعلم أن محمداً الهاشميّ عليه الصلاة والسلام مع أنه أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوّته الظاهرية وعدم حاكميةٍ له أو لسَلفه، وعدمِ ميلِ تحكّم وسلطنةٍ، قد تشبثَ بقلبه بوثوقٍ واطمئنان في موقع في غايةِ الخطر وفي مقام مهم، بأمر عظيم فغلَب على الأفكار، وتحبّب إلى الأرواح، وتسلّط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العاداتِ والأخلاقَ الوحشيةَ المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإِحكام والقوة -كأنها اختلطت بلَحمهم ودمهم- أخلاقاً عاليةً وعاداتٍ حسنة، وقد بدَّل قساوةَ قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة وأظهرَ جوهرَ إنسانيتهم. ثم أخرجهم من زاوية الوحشة وَرقّى بهم إلى أوج المَدَنية وصيّرهم معلِّمي عالَمهم، وأسَّس لهم دولةً ابتلعت الدول كـ«عصا موسى»، فلما ظهرت صارت كالشعلة الجوّالة والنور النوّار، فأحرقت روابط الظلم والفساد، وجعل سريرَ تلك الدولة الدفعية في زمان قليل الشرقَ والغربَ.

أفلا تدل هذه الحالة على أن مسلكَه حقيقة وأنه صادق في دعواه؟