الرسالة السابعة([1])

زهرة

من رياض القرآن الحكيم

 

 

كلُّ حيّ في الدنيا كعسكر موظّف، إنما يعمل بحساب المَلِك وباسمه.

فمن زَعمَ أنه مالِكٌ، فهوهالِكٌ..

إنَّ هذا النظام والميزان المشهودين عنوانان لقبضتي الرحمن وبابان من الكتاب المبين.. ومن كتاب الكائنات.

والقرآن ترجمانُ الكتابين وفهرستة البابين وفذلكةُ القَبْضَتين.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الحاكم الحَكَمِ الحكيمِ الأزلي الذي نظَّمَ هذه الكائنات بقوانينِ عادتهِ وسنَّتهِ، وعيَّنها بدساتير قضائهِ وقدَره، وأسس بنيانَها بأُصول مشيئته وحِكمته، وزيَّنها بنواميسِ عنايتهِ ورحمتهِ، ونوَّرَها بجلواتِ أسمائه وصفاتِه. وهوالقادرُ القيومُ السرمدي الذي ما هذه الكائنات بماهياتها وهوياتها وتمايزاتِها وتزييناتِها وموازينها ومحاسنها إلا خطوطُ قلمِ قضائهِ وقدَره، ونقوشُ بركار عِلمه وحِكمته، وتزييناتُ يدِ بيضاء صُنعه وعنايته، وأزاهيرُ رياضِ لُطفه وكرمه، وثمراتُ فيّاض رحمتهِ ونعمتهِ، ولمعاتُ تجليات جمالهِ وكمالهِ جلَّ جلالهُ؛ حمدا يزيدُ على ضرب جميع الذرات في الذرات.

فيا من بتلألؤ لمعاتِ بروقِ شروق أسمائه ظهر عجائب المخلوقات.. ويا مَن تساوى بالنسبة إلى قدرته الذراتُ والسياراتُ.. ويا من كتبَ على مِسطَرِ الكتاب المبين -المصدرِ للنظام والميزان- هذه الكائنات المتزينات:

إنّا نُقدِّمُ إليك بين يَدي كلِّ سُكونٍ وحركةٍ تتحركُ بها ذراتُ العالَم ومركباتها شهادةَ: نشهدُ أن لا إله إلّا أنتَ وحدَكَ لا شريكَ لك، ونشهد أن محمّدا عبدُك ورسولُك، أرسلته رحمةً للعالمين.

اَللَّهُمَّ صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه بعددِ جميعِ الحروفات المتشكّلة في الكلمات المتمثلة بإذنِكَ في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كلِّ كلمةٍ من القرآن مِن كل قارئٍ من حين النـزول إلى يوم النشور.

اعلم أن ما يوصل إليك -بحسب الظاهر- من الوسائل؛ إمّا له اختيار أولا. وما لا اختيار له، لا ريب أنه يعطيك ما يعطيك بحساب الله وباسمه. فخذ وكُل أنت باسم الله، وتوجَّه بتمام شكرك إليه.. وإما له اختيارٌ ما، فلا تأخذ ولا تأكل منه ما لَمْ يُذكَرِ اسمُ الله عَليهِ، أي بإخطار صاحبه الحقيقي وبتوجيه نظرك إليه كما ترمز إليه الآية: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ﴾ (الأنعام:121).. فإن لم يَذكُر هو، فاذكر أنت. وانظر من فوقِه إلى مَن أنعمَ عليه وعليك. فانظر في النعمة إلى الإنعام، ومنه إلى المنعم الحقيقي. فاشكره بهذا النظر، فإنّ هذا النظر شكرٌ، ثم ارجع إن شئت وانظر إلى الوسيلة وأدعُ له مُثنيا عليه بسبب إرسال النعمة على يده. وإياك إياك يا قلبي أن تنظر أوّلا وبالذات إلى المنعم الظاهري..

الحاصل: لابد من «بسم الله»: مرتين في المختار، ومرة في غيره. وإياكِ إياكِ يا نفسي أن تظني «الاقترانَ» عِلّية.. فقد يقارن وصولُ نعمةٍ فعلَ أحدٍ، فيظنُ قاصرُ النظر أن فعلَه علّتُها، كلا! وإياك أن تجعلَ عدمَ نعمةٍ عند عدمِ شيءٍ دليلا على أن وجودَ ذلك الشيء علةُ وجودها. فقد تترتب النتيجةُ على ألوف أمورٍ، فلا توجد -بسنّة الله – تلك النعمة لفِقَدْ أي جزءٍ كان ولوأضعف الأمور. فهل يجوز لمن فتحَ قنطرة جدولٍ فسال الماءُ على نواة وبذر فانشجرت وتسنبلت، أن يدّعيَ أن الشجرة صُنعُه ومُلكه ومالُه حقيقةً؟ فهذه المسألة ميزان تُعرف به درجاتُ الغفلة والشرك الخفي..

وإياكَ إياك يا قلبي أن تسنِد ما يُفاض على الجماعة أويتظاهر منها أويتحصل من مساعيها إليكَ وإلى غيرك من ممثل الجماعة أوأُستاذِها أومرشدها؛ إذ مع أن هذا الإسناد والتصوّر ظلمٌ عظيم يوقع المسنَد إليه -المستتر فيه «أنا»- في غرور عظيم، وأنانية غليظة، ويفتح لمَن يسنِد منافذَ إلى نوع شركٍ خفي، فتأخذ الوسيلةُ حُكمَ المقصود ويلبس البوّابُ زيّ السلطان..

وإياك إياك إذا رأيت من أحدٍ فيوضاتٍ تَرِدُ عليك، أن تظن أنه مصدرُها أومنبعها. بل ما هوإلّا مظهرها ومَعكِسُها، بل يحتمل أن لا يكون مصدرا ولا مظهرا، بل لأجل حصر نظرك عليه تتخيل ما يُفاض عليك من مقلّبِ القلوب إلى قلبك، كأنه تمثّل أولا في مرشدك، ثم انعكس عليك. كَمَثل من يُمعن النظر في زجاجة، فيتجرد ذهنه فيجول في عالم المثال، فيشاهد غرائبَ فيزعمها متمثلة في الزجاجة، كلا!

اعلم يا من يستمد من الأسباب: «تنفخُ في غير ضرمٍ وتستسمن ذا وَرَم».

مثلا: إذا شاهدتَ قصرا عجيبا يُبنَى من جواهرَ غريبةٍ لا يوجد وقتَ البناء بعضُ تلك الجواهر إلا في الصين، وبعضها إلاّ في فاس، وبعضها إلّا في اليمن، وبعضها إلّا في سيبيريا، وهكذا.. أفلا تشهدُ أن ذلك القصر بناءٌ يبنيه مَن يحكم على كرة الأرض ويجلب من أطرافها ما يريد في أسرع وقت؟

وهكذا؛ كلُّ حيٍّ بِناءٌ، وكلُّ حيوان قصرٌ إلهي، لاسيما أن الإنسان من أحسن تلك القصور، ومن أعجبها، لأنه امتدت حاجاتُه إلى الأبد، وانتشرت آمالُه في أقطار السماوات والأرض، وشرعت روابطهُ في ما بين أدوار الدنيا والآخرة. فيا هذا الإنسان، لا يليق بك ولا يحق لك وأنت تحسَبك إنسانا أن تدعووتعبدَ إلّا مَن يَحكم على الأرض والسماء ويملك أزمةَ الدنيا والعقبى!

اعلم يا قلبي أن الأبله الذي لا يعرفُ الشمسَ إذا رأى في مرآةٍ تمثالَ شمس، لا يحب إلا المرآة ويحافظ عليها بحرص شديد لاستبقاء الشمس، وإذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة ولا تفنى بانكسارها، توجَّه بتمامِ محبتِه إلى الشمس؛ إذ ما يشاهَد في المرآة ليس بقائم بها، بل هوقيومُها. وبقاؤه ليس بها، بل بنفسهِ.. بل بقاءُ حيوية المرآة وتلألؤها إنما هوببقاء تجليات الشمس ومقابلتِها، إذ هي قيومُها. يا هذا قلبُك وهويتُك مرآةٌ، فما في فطرتك من حُب البقاء ليس لأجلها، بل لأجل ما فيها.. فقل: «يا باقي أنت الباقي، فإذ أنت باقي فليفعل الفناءُ بنا ما شاء فلا نبالي بما نلاقي».

اعلم يا أيها الإنسان! إنّ من غرائب ما أودع الفاطرُ الحكيم في ماهيتك أنه قد لا تَسعك الدنيا فتقول «أوف» كالمسجون المخنوق، مع أنه تَسعُك خردلةٌ وحُجيرةٌ وخاطرةٌ ودقيقةٌ حتى تفنَى فيها، وتستعمل أشد حسياتك لها.. وأعطاك لطائف بعضُها يبتلع الدنيا فلا يشبع، وبعضها يضيق عن ذرة ولا يتحمل شُعيرة، كما أن العين لا تتحمل شعرة.

فاحذر وخفّف الوطء، وخَف أن تغرقَ ويغرق معك ألطفُ لطائفك في أكلةٍ، أوكلمةٍ، أوشعرة، أوشُعيرة، أولمعةٍ، أولحمةٍ، أوبقلةٍ، أوقُبلةٍ.. فإن في كل شيء جهة من عدم التناهي يطيق أن يُغرقَك، ولا يضيق عن بلعِك. فانظر إلى مرآتك كيف يغرقُ فيها السماء بنجومها! وإلى خردلةِ حافظتك كيف كتب «الحق» فيها أكثر ما في صحيفة أعمالك وأغلبَ ما في صحائف أعمارك! فسبحانه من قادرٍ قيوم!

اعلم أن دنياك كمنـزل ضيق كالقبر، لكن لأجل أن جدرانه من زجاجة تتعاكس، تراه واسعا مقدار مد البصر؛ إذ الماضي المعدومُ من جهة الدنيا، والآتي المفقودُ؛ مرآتان متقابلتان تصلان جناحَ حالك وتتصلان بزمانك. فلا تفرقُ بين الحقيقة والمثال؛ فيصير خطُ «آنِكَ» سطحا، حتى إذا تحركتَ بتحريك المصائب ضربت الجدرانُ رأسَكَ فيطيرُ خيالكَ ويُطرَد نومُك، فترى دنياكَ أضيقَ من القبر والجسر، وزمانَك أسرعَ من البرق والنهر..

اعلم يا من يريد أن يرى شواهدَ تجليات اسمه «الحفيظ» المشار إليه بـ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۜ ﴿7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة:7-8) وبـ: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْاَرْضِ وَلَا فِي السَّمَٓاءِ وَلَٓا اَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَلَٓا اَكْبَرَ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ (يونس:61) في صحائف كتاب الكائنات المكتوب ذلك الكتابُ على مِسطرِ الكتابُ المبين.

انظر إلى غُرفَةٍ تأخذها بقبضتك من أشتات بذور الأزهار والأشجار، قد اختلطت تلك البذور والحبَّات المختلفةُ الأجناسِ والأنواع، المتشابهةُ الأشكالِ والأجرام، بحيث لا يميَّز بينها. ثم ادفنْها معا -في الظلمة- في ظلمات تراب بسيط جامد محدود. ثم اسقِه بالماء الذي لا ميزانَ له ولا يفرّق بين الأشياء، فأينما توجّهْه يذهب. ثم انظر إليها عند الحشر السنوي وقد حُشر بنفخ الرعد في الصُور في الربيع، حتى ترى تلك البذورَ المختلطة المتشابهةَ كيف امتثلت بلا خطأ الأوامرَ التكوينيةَ من فاطرها الحكيم، بصورة يتلمعُ منها كمالُ الحِكمة والعلم والإرادة والقصد والبصيرة والشعور! ألا ترى تلك المتماثلات كيف تمايزت؟ حتى صارت هذه شجرةَ التين تنشُر وتنثر على رؤوسكم نِعَم ربّها! وصارت هذه أزاهيرَ تزيَّنت لأجلك وتضحك في وجهك وتتودّد لك؟ وصارت هاتيك فواكهَ مما تشتهون تدعوك إلى أنفسها وتفديها لك؟ حتى صارت تلك الغُرفة بإذن خالقها جَنةً مشحونةً من الأزهار المختلفة والأشجار. وانظر هل ترى فيها غلطا أوقصورا؟. ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَۙ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ (الملك:3) بل قد أعطى «الحفيظ» لكلٍ منها ما ورثه من مال أبيه وأصله بلا نقصان وبلا التباس. فما يفعل هذا الفعل إلا من يقتدر على أن يقيم القيامة. فمَن يفعل هذا، هوالذي يفعل تلك.. فإظهارُ كمالِ الحفظ ها هنا مِن الأمور التافهة الزائلةِ حُجةٌ بالغة على محافظة ما له أهميةٌ عظيمة وتأثير أبدي، كأفعال خلفاء الأرض وآثارهم، وأعمال حَملة الأمانة وأقوالهم، وحسنات عبدة الواحد الأحد وسيئاتهم. ﴿اَيَحْسَبُ الْاِنْسَانُ اَنْ يُتْرَكَ سُدًى (القيامة:36) بلى إنه لمبعوث إلى الأبد، فيحاسَب على السبَد واللبَد.

فهذا المثال الذي تنسج أنت على منواله ليس قبضةً من صُبرة أوغرفة من بحر، بل حَبَّة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء، وقطرة من زلال السماء.. فسبحانه مِن حفيظ رقيب وشهيد حسيب.

اعلم أيها السعيد الغافل! إن ما لا يرافقك بعد فناء هذا العالم بل يفارقك بخراب الدنيا، لا يليق أن تلزق قلبَك به. فكيف بما يتركك بانقراض عصرك؟.. بل فكيف بما لا يصاحبك في سفر البرزخ؟.. بل فكيف بما لا يشيّعك إلى باب القبر؟.. بل فكيف بما يفارقك سنة أوسنتين فراقا أبديا مورِثا إثمَه في ذمتك؟.. بل فكيف بما يتركك على رغمك في آن سرورك بحصوله؟

فإن كنت عاقلا لا تهتم ولا تغتم، واترك ما لا يقتدر أن يرافقَك في سفر الأبد، بل يضمحل ويفنَى تحت مصادمات الانقلابات الدنيوية والتطورات البرزخية والانفلاقات الأُخروية. ألا ترى أن فيك شيئا لا يَرضى إلّا بالأبد والأبدي، ولا يتوجه إلّا إليه، ولا يتنـزل لما دونه؟ وذلك الشيء سلطانُ لطائفك. فأطِعْ سلطانك المطيع لأمر فاطره الحكيم جلّ جلاله.

………

اعلم يا أيها السعيد الغافل! تنظر إلى أطرافك الآفاقية فتراها ثابتة مستمرة في الجملة وبالنوع، فتظن نفسَك أيضا ثابتةً دائمةً حتى لا تتدهشُ إلّا من القيامة، كأنك تدوم إلى أن تقوم هي. كلا! إنك ودنياك في مَعرض الزوال والفناء في كل آن. فمثلك في هذا الغَلط كمثل مَن في يده مرآة متقابلةٌ لمنـزل أوبلد أوحديقة ارتسمتْ هي فيها، ففي أدنى حركة للمرآة وتغيرها يحصل الهرج والمرج في تلك الثلاثة التي اطمأننتَ بها. وأما بقاؤها في أنفسها فلا يفيدك، إذ ليس لك منها إلا ما تعطيك مرآتُك بمقياسها وميزانها. فتأمل في مرآتك وإمكان موتها وخراب ما فيها في كل دقيقة. فلا تحمِل عليها ما لا طاقةَ لها به.

اعلم أن من سنة الفاطر الحكيم -في الأكثر- ومن عادته، إعادةَ ما لَهُ أهميةٌ وقيمةٌ غاليةٌ بعينهِ لا بمثله في الأدوار والفصول المتكررة بتجدد الأمثال في أكثر الأشياء. فانظر إلى الحشر العصري والسنوي واليومي، تَرَ هذه القاعدةَ مطّردة. وقد اتفقت الفنونُ وشهدت العلومُ على أن الإنسان أكملُ ثمرات شجرة الخلقة، وله أهمية عظيمة وقيمة غالية، وفردُه كنوعِ غيره. فبالحدس القطعي يُعادُ كلُّ فردٍ من البشر في الحشر والنشر بعينه وجسمه واسمهِ ورسمهِ..

………

اعلم أن الفذلكات المذكورةَ في أواخر الآيات لا تنظر إلى تلك الآية التي هي فيها فقط، بل تنظر إلى مجموع القصة، بل إلى تمام السورة، بل إلى جميع القرآن؛ لتساند الآيات وتلاحظها وتناظرها، فلا تزنْ ما في الفذلكة بميزان مآل آيتها فقط، ولا تحمِل عظمتَها على حُكمٍ جزئي مُهّد المحلُ لذكرها، وإلّا بَخَسْتَها حقَّها. مثلا قال: ﴿وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْاٰيَاتِ﴾ (الأعراف:174).. ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هٰذَا الْقُرْاٰنِ﴾ (الإسراء:41).. ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هٰذَا الْقُرْاٰنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ (الروم:58).. و﴿اِنَّ اللّٰهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾ (التوبة:71).. و﴿اِنَّ اللّٰهَ عَليمٌ قَديرٌ (النحل:70) ومثل: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات:49) و﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة:183) وأمثالها مما له عيون ناظرة إلى أكثر الآيات التنـزيلية، وأكثر الآيات التكوينية، وأكثر الأحوال البشرية.

فهذه الخواتيم القرآنية التي تُمهَرُ بها الآيات مع تأييدها لآياتها، ترفع رأسَ المخاطَب من الجزئي المشتّت إلى الكلي البسيط؛ ومن الجزء المفصّل إلى الكل المجمل، وتوجِّه نظره إلى المقصد الأعلى.. وغير ذلك من أسرار البلاغة.

اعلم([2]) يا قلبي قد يغالطك الشيطان بإراءة الغير الغير المحدود، ليهونَ عندك قيمةَ ما أُنعم عليك. فانظر حينئذٍ إلى احتياجك ونفسِك وعجزك وحكمة النعمة والإنعام القصدي في النعمة، وإلى عدم تناهي تجلي القدرة والعلم والإرادة، وإلى غايات وجودك ونتائجه العائدة إلى مالكه وصاحبه الحقيقي الذي له الأسماء الحسنى. وكذا يغالطك الموسوِس مستمدا من أنانيتك ومستندا بفرعونية النفس بإراءة صغار الحيوانات وخِساس الحشرات، ويضعها نصب عينك ويقول لك: ما الفائدة في خلقتها السريعةِ الزوالِ؟ فيلقنك العبثيةَ -بعد تلقين أنّ غايةَ الحياة هي الحياة، وأن قيمة الحياة بالبقاء- ليُسقِطَ في عينك أهميةَ الرحمة والنعمة وإتقانِ الصنعة فيما تُشاهِد هذه الثلاثةَ فيه، ليُنسيكَ الصانعَ بالتعطيل. فقابلْ أنت بإراءة السماوات بنجومها والأرضِ بحيواناتها. هذا إذا نظرتَ إليها وأنت أنت.. وأما إذا نظرتَ إلى ما هوأصغر منك، فانظر أيتها الحُجيرةُ الكبرى إلى غرائب حياة حُجيرات جسدك ووظائف الكريوات الحمراء والبيضاء في دمك الدائر مادمتَ في هذه الدار، وإلى رقائق لطائفك الطائفة بقلبك.


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «نجم استقبال» بإستانبول سنة 1341هـ (1923م) ثم ترجمها الأستاذ النُّورْسِيّ إلي اللغة التركية مع شيء من الإيضاح وجعلها «اللمعة السابعة عشرة» في خمس عشرة مذكرة وقد أشرنا إلى موضع كل مسألة من اللمعة المذكورة، فمن شاء فليراجعها.

[2] قد مرّ في ذيل الحباب إجمال هذه المسألة. (المؤلف).