كيف كانت الرسائل تكتب؟

عندما كنا نذهب إلى الأخ الحافظ توفيق الشامي كان يرينا الأماكن التي ألف الأستاذ فيها الرسائل ويدلنا عليها. وفي إحدى زياراتنا له قال: أذكر لكم خاطرة من حياة الأستاذ وكيف كان يؤلف الرسائل:

«كنا نذهب مع الأستاذ للتجوال في المروج الخضر فيجلس هو في مكان مناسب وينظر إلى نقطة معينة، ويتكلم بصورة سريعة جداً. وأنا أكتب كل ما يقوله بسرعة أيضاً ويؤشر بيده إليّ ويقول: أكتب يا أخي.. وهو يركز نظره في نقطة معينة وبعد ذلك يقول: قف، قد انقطع..اذهبْ إلى طرد الذباب (عبارة ترمز إلى الذهاب للتدخين بعيداً عنه).

والحقيقة أنني كنت أدخن بكثرة. فأذهب إلى مكان بعيد عن الأستاذ وأجلس وراء صخرة فأدخن ثم أرجع إلى الأستاذ ونستمر بالكتابة أيضاً.

هنالك رسائل قد أُلفت خلال ساعة أو ساعتين. وايم الله لقد كنت أستنسخ الرسائل نفسها في البيت فلم أكن أنهيها لا في ساعة أو ساعتين ولا في يوم أو يومين بل أكثر».

مرض العصر

كان الأستاذ يتحدث في أغلب دروسه عن: الأخوة والإخلاص. فكان يشخّص مرض زماننا هذا بـ: الغرور والأنانية وحب النفس.

قال الأخ زبير يوماً: أستاذي الحبيب! إنني أكاد أرتعد من خوفي من الغرور والأنانية.

فأجابه الأستاذ: نعم، خف وارتعد من الغرور. ففي هذا الزمان -وهو زمان الغفلة عن الله- ترى أصحاب الأفكار المنحرفة عن الدين يجعلون كل شيء آلة ووسيلة لمصالحهم الخاصة، فتراهم يستخدمون الدين والعمل الأخروي وسيلة لمغانم دنيوية. ألا أن حقائق الإيمان والعمل لنشر رسائل النور.. هذا العمل المقدس لا يمكن أن يكون وسيلة لجر مغانم دنيوية قط، ولن تكون غايته سوى رضى الله سبحانه… بيد أن الاصطدامات التي تحدث جراء التيارات السياسية الضالة تجعل المحافظة على الإخلاص، والحيلولة دون جعل الدين وسيلة للدنيا عسيرة.. والحل الوحيد أمام هذه التيارات هو الاستناد إلى العناية الإلهية واستمداد القوة منها.

مزيداً من القراءة

مضت أعوام عديدة، ونحن مع الأستاذ ولم نر منه أنه صرف جزءً من وقته سدى، بل كان يقرأ الرسائل أو يصحح ما كان منها مستنسخاً أو يستقرئ وهو يستمع. ففي السنوات الأخيرة ظهر جهاز التسجِيل وبدأنا نقرأ الرسائل ونسجلها على أشرطة التسجيل ثم نقدمها إلى الأستاذ ليسمعها وكان يشوّق الزائرين قائلا لهم: ظهر جهاز جديد يحفظ رسائل النور ويقرؤها بشكل جميل وجذاب.

كان الأستاذ يسألنا في بعض الأحيان قائلا: «كم صفحة قرأتم اليوم؟» وكنا نجيبه: «قرأنا ثلاث أو خمس صفحات». فيقول: «أما أنا فقد قرأت مأتي صفحة، وبالرغم من عجزي عن الكتابة فأكتب بشكل بطئ جداً. فقراءتي تختلف عن قراءتكم. فأنتم تقرؤون قراءة سطحية كقراءة الجرائد، ولكني أقرأ مع فهم المعاني والمقاصد وهاكم انظروا إلى تصحيحاتي كذلك».

هذا وكان الأستاذ عندما يريد أن يقلب صفحات الرسائل كان يقلبها ببطء واعتناء من غير أن يؤذي الورقة ومن دون أن يبلل إصبعه لقلب الصفحة. ويقول لنا: «الحمد لله، لقد قرأت اليوم هذا القدر فاستفدت كثيراً، فاليوم انشرح صدري وتوسع إيماني كثيراً». أو يقول: «سبحان الله! استفدت من هذه الرسالة استفادة جمة حتى كأنني لم أرها من قبل أبداً». ويقول: «إخواني، انظروا! إنني قد قرأت إلى هذا الحد، فلم أجد فيه خطأ قط، فعند تأليف رسائل النور ساعدتنا العناية الإلهية والحفظ الرباني. فهذا الأمر لا يأتي من مهارتنا ولا من قابليتنا بل هو إحسان إلهيّ وكرم منه ولطف بالإنسان العاجز». ويقول: «لقد التحم في تأليف رسائل النور طي المكان وطي الزمان. أي إنها أصبحت تنهي أعمالاً كثيرة في زمن قصير وهذا التسخير الرباني إحسان من الله تعالى، وأنا أكتبها كما تُلهَم إلى قلبي وبشكلها الأصلي فلا أجرؤ على تغييرها».

قاعدة في القراءة

في أحد الأيام كان الأستاذ يقرأ «الحزب النوري» ويشرحه لنا وسألني عن مقدار ما فهمته من الدرس فأجبته بعدم الفهم، فبدأ الأستاذ يوضح الدرس أكثر فأكثر حتى فهمت الدرس فهماً تاماً. فخطر على قلبي: «إنني قد تكاملت إذ بدأت أفهم اللغة العربية جيداً». ففي أثناء الدرس كنت قد فهمت كل شئ، ولكن ما إن خرجت من غرفة الأستاذ حتى وجدت دماغي وكأنه قد مسح مسحاً فلم يبق فيه شئ.

سألني الأستاذ ذات مرة في نهاية الدرس عن مدى فهمي له أيضاً. فأجبته قائلاً: «لم أفهم الدرس جيداً». فالتفت إلي ولطمني بلطف براحة يده قائلاً: «إنك فهمت الدرس كله، فيكفيك هذا القدر من الفهم. أخشى أن يدخل شيء في نفسك فتقولَ: لقد تكاملتُ إذن، وعندها لا تكون مؤهلاً للخدمة القرآنية. إذا لم تفهم الدرس أكثر من هذا فاكتف بهذا القدر منه».

وساق مثلاً حول فهم الدرس وهو: «إذا دخلت جماعة في بستان فإنهم يتناولون من الفواكه كل بحسب ما تصل إليه قامته ويده. فالطويل يقطف من الأغصان العالية، والقصير يقطف من الأغصان الواطئة، والقسم الآخر لا يقطفون ولكن يدوسون عليها بأقدامهم ويسحقونها، فإن كنت أنت ممن تشم رائحتها فحسب يكفيك ذلك. فاقنع بهذا واشكر الله عليه».

كان يعلمنا كيف نفكر

كان الأستاذ يرتقي التلال التي تشرف على مدينة إسبارطة ليشاهد فيما حواليها من مناظر الفطرة ومشاهد الطبيعة، وكانت الطريق مكسوة بأشجار الفواكه وخاصة العنب. فيمسك الأستاذ بعنقود منها -دون أن يقطعه- ويعدّ حباته مبيناً لنا ما فيه من بدائع الصنعة الإلهية والإتقان الرباني فيقول: «انظروا وتأملوا في حلويات القدرة الإلهية هذه»..

فكان يعلمنا بهذا كيف نفكر في مخلوقات الله المبثوثة في معرض الله.. وهكذا كنا نتلقى دروساً إيمانية في التدبر وفق منهج القراءة في كتاب الكون المفتوح أمامنا.([1])

زيارة المقابر

كلما كان الأستاذ يمر على قبر سواء على الطريق أو في المقبرة، يدعو لهم بالخير.

وذات يوم وقف على مقبرة وقال: «إن شواهد هذه القبور تذكرنا بالآخرة، وتنذرنا، فهي كالمعلم الحي لنا حيث هي شاخصة أمامنا. ألا ترون أن هذه الأحجار ترشدنا إلى دروس بليغة بلسان حالها وكأنها تقول لنا: «أنتم أيضاً قادمون إلى هنا… لامناص».

وهكذا كان يعلمنا كيفية التفكير في الأمور كلها، وعلمنا أدب زيارة القبور.

مطالعة الكون

عندما كان الأستاذ يتجول في السهول الممتدة على مد البصر وبين المروج المزدهرة بالأثمار والأزهار، كان يتصفح كتاب الكون المنظور بنظراته الدقيقة الواعية ويقرأ ما وراءه من معان ورموز، كمن يقرأ كتاباً مفتوحاً بين يديه بكل اهتمام وذوق، وكان يقول لنا في أثناء ذهابنا وإيابنا في السيارة: «هل تطالعون كتاب الكون أيضاً؟»

كان للأستاذ علاقة متينة مع المخلوقات ويشفق كثيراً جداً على الأشجار والحيوانات بل حتى على الأحجار أيضاً. فعندما يرى كلباً -مثلاً- في الطريق يشفق عليه ويبادرنا بالقول: «هل لديكم كسرة خبز؟» فيأخذها ويعطيها للكلب.

ويقول: هذه حيوانات وفية، وإن عدْوها وعواءها ناشئان عن صدقها ووفائها.

وكان عندما يرى في السهول السلحفاة -مثلاً- على حوافي السواقي يقول: «ما شاء الله، بارك الله، ما أجملها من مخلوق، فالصنعة والإتقان في خلقها ليس بأقل منكم».

وأحياناً عندما كان الأستاذ يرى مملكة النمل أو يرانا نحرك حجراً وتحته مملكة النمل كان يعيد الحجر إلى مكانه ويقول: لا تقلقوا راحة هذه الحيوانات.

وعندما كان يلتقي في تجوله صيادي الأرانب والطيور يقول لهم: «لا تروعوا هذه الحيوانات ببنادقكم ولا تؤذوا غيرها».

وهكذا وبهذا الأسلوب كان ينصح الصيادين الهواة. حتى جعل الكثيرين منهم يتخلون عن الصيد.

وعندما يلتقي الرعاة في السهول الخضراء وهم يرعون حيواناتهم في مروج بين الجبال والوديان والسهول، يلاطفهم ويقول لهم: «إنكم إذا ما أديتم الصلاة في أوقاتها الخمسة خلال اليوم يصير اليوم بكامله بمثابة عبادة لكم، لأنكم برعيكم هذا تقدمون خدمة كبيرة للبشرية فإن انتفاع بني البشر من أصوافها ولحومها وألبانها هو بحكم الصدقة لكم، فلا تؤذوا إذن هذه الحيوانات البريئة النافعة».

ولم نكن نرى الأستاذ في تجواله في الفلوات فارغاً دون عمل أبداً؛ فهو إما ينشغل بقراءة «الجوشن أو دلائل النور، خلاصة الخلاصة، حزب النوري، التحميدية، السكينة، الأوراد القدسية» التي كان يقرؤها كل يوم حتى أثناء تناول الشاي أحياناً. وكنا نقرأ له من رسائل النور وهو يستمع ويتأمل ويتفكر أو يصحح رسائل النور المستنسخة.

وفي تجوالنا هذا كان الأستاذ يتسلق أعالي الأشجار العالية ويفضل الصلاة على الصخور المرتفعة. وكان يقول لنا: «لو كان فيّ قوة شبابكم هذا لما نزلت من هذه الجبال».

فكان يطالع ويتدبر في آيات كتاب الكائنات الكبير دائماً.

وعندما كنا في جبل «جام» ونحتاج إلى أخشاب الأشجار فالأستاذ كان يمنعنا من قطع الأشجار كيفما اتفق بقوله: لا تقطعوا الأشجار فإنها تذكر الله وتسبحه.)

دروس النور والسياسة

كان الأستاذ يرشد الذين يأتون إلى زيارته من السياسيين والمهتمين بالأمور الاجتماعية قائلا لهم: «إن طلاب النور ليست لهم أية علاقة مع السياسة، فيجب والحالة هذه ألا يتوجس أهل الدنيا من طلاب النور خيفة أبداً لأننا نعمل للآخرة وليس للدنيا. وبما أن غاية المنتسبين لرسائل النور هو إرضاء الله -سبحانه- وحده فهم بقدر استطاعتهم لا يرغبون في أن يتدخلوا بأمور السياسة وتياراتها في المجتمع، لأن الذين يأتون لتلقي الدروس الإيمانية لا يمكن أن ينظر إليهم نظرة الأغيار إذ لا فرق بين صديق وعدو في أثناء الدرس».

وذات يوم قال أيضاً: «في الدروس الإيمانية لا يمكن التفرقة بين الطلاب، فإن كان ابن مصطفى كمال جالساً في درس من دروس النور مع ابن عبد المجيد -يقصد أخاه- لا يميّز بينهم، فكل واحد يأخذ نصيبه من الدرس. بينما مسألة الانحياز في السياسة إلى طرف معين يفسد هذا المعنى فيفسد الإخلاص، ولهذا السبب فقد تحمل طلاب النور المصاعب والأهوال والمضايقات لكي لا يصبح النور آلة لأي شيء، فلم يمدوا أيديهم إلى السياسة. وبما أن رسائل النور قد حطمت الكفر المطلق وحطمت الفوضى المتسترة تحت الكفر المطلق وقاومت الاستبداد المطلق الذي يلبسه الكفر المطلق فإنها من هذه الجهة فقط قد تمس السياسة.

كان الأستاذ قد أثبت من خلال المصاعب والمتاعب التي مرت عليه خلال خمس وعشرين سنة بالمحاكمات وغيرها بأنه لا يستبدل ملك الدنيا كلها وسلطنتها بأدنى مسألة إيمانية.

الحذر

كنا نشتري له رغيفاً واحداً في الأسبوع وعند الشراء كان يتفحص الخبز بدقة لأنه كان هناك من يريد الإضرار بالأستاذ بدس السم في طعامه، فنحن أيضاً كنا لا نأخذ ما يعطيه الخباز لنا، بل نختار بأنفسنا ما نريده. أما عند شرائنا اللبن فقد كنا نختار ماعوناً واحداً من بين مئات المواعين، فلا عجب في هذا العمل إذ الأستاذ قد سُمّم سبع عشرة مرة.

وعندما كنا نجلب الماء للأستاذ كان الناس يريدون أن يساعدونا لمعرفتهم لنا أننا خدام الأستاذ فكنا لا نتكلم مع أحد قطعاً ولا نعطي الترمس لأحد حتى لو كان من طلاب النور، كنا نضع كل ما نشتريه للأستاذ في إناء مغلق مسدود وذلك تجنباً من التسمم.

لا يُدخل طعاماً على طعام

كان الأستاذ يأكل قليلاً جداً، وما كان يدخل الطعام على الطعام قط إلا بعد مرور خمس ساعات كاملة، وما كان يشرب الماء بعد الأكل إلا بعد ساعتين كاملتين. حيث كان ينظر إلى الساعة فإن كان باقياً عشر دقائق كي تكمل الساعتان يقول: لم يحن بعد موعد شرب الماء.

كان يشرب الماء بارداً جداً، فكنا نذهب إلى إسبارطة لشراء الثلج من صيدلية هناك -حيث لم تكن الثلاجات متوفرة حينها- ونضع الثلج ونحفظه في ترمس خاص.

دأبه مع طلابه: الاستشارة وتقسيم الأعمال

لقد ضحى الأخ زبير بحياته كلها في سبيل خدمة الإيمان عن طريق نشر رسائل النور وخدمة الأستاذ، فلو كانوا يقطعونه إرباً إرباً لكان ينهض ويهب قائلاً: «رسائل النور.. رسائل النور».

وإذا كان طريح الفراش من شدة المرض ويسمع أن الشرطة قد قدمت إليه، كان يقوم ويعتدل ولا يكاد يظهر عليه أثر المرض، لئلا يبدو الضعف منه أمامهم. ولو حصل أن كتبت مقالة في الصحف حول الإيمان والإسلام والشجاعة والفداء فهو أول من يتهم. وهو بدوره لا يتراجع ولا يتنازل أبداً عما قاله فيستمر في محاججتهم. كان الأخ زبير يطبق نفس ما يفعله الأستاذ، وكان الأستاذ يأتمنه على خدمته بل على أشغاله الخاصة وكثيراً ما كان يحوّل الموضوعات الاجتماعية والسياسية أولاً إلى الأخ زبير. أما الأخ صونغور فكان الأستاذ كثيراً ما يكلّفه بأمور المقابلات الضرورية مع رجال الدولة وتوجيه بعض الرسائل التي تمس الحياة الاجتماعية.

كان دأب الأستاذ دائماً أن يفتح باباً للعقل والتفكير لدى طلابه فلا يسلب الإرادة من الإنسان كلياً بل كان يشير إلى ما يأمر به إشارة فحسب. فكان ينادي «زبير» مثلاً ويستشيره: «هل نعمل كذا وكذا يا زبير؟»

فالأخ زبير ما كان يعمل شيئاً ولا يكتب أية رسالة إلا بأمر الأستاذ واستشارته. فقد كانت حياته كلها موقوفة لرسائل النور، فيقوم برسائل النور ويجلس برسائل النور وينام برسائل النور وهو مع رسائل النور لا يفارقها ساعة.

لله دره من تلميذ مخلص متفان لا يجارى ولا يكاد يكون له مثيل في شرف هذه الخدمة العظيمة بين طلبة النور كلهم.

جنود في الخدمة

عندما دخلت رسائل النور المطابع، وبدأت بالانتشار لم تكن ترى الأستاذ جالساً في مكانه قط بل كان في حركة دائبة وفي فعالية مستمرة ونشاط دائم، كان فرحاً سعيداً دائماً بل يكاد يطير من فرحه.

وكنا نذهب أحياناً مشياً على الأقدام أو بالسيارة إلى مناطق مختلفة كحدائق الزهور في إسبارطة، أو حدائق بارلا، أو حافات بحيرة أغريدر، أو المقبرة، وغيرها من الأماكن، فقد كانت هذه الأماكن تعدّ بمثابة منازل نور صغيرة، فكنا نجول فيها ثم نعود وقد امتلأت قلوبنا بأفراح ملء الدنيا من مباهج النور ومعاني الإيمان.

كان الأستاذ يركب فرساً وكان أحدنا يأخذ بزمام الفرس والثاني يمسك الأستاذ خشية سقوطه وذلك لكبر سنه والثالث يحمل سجادته وترمسه وإبريقه. هكذا كنا نسير مشياً على الأقدام إلى أن نقطع الطريق من أغريدر إلى بارلا. ومتى ما كان يرانا الأستاذ دون عمل، أو قاعدين بلا شغل يقول: «هيا.. تعالوا ليقرأ أحدكم الدرس، وليذهب الآخر إلى جلب الماء، وليعد الثالث الطعام».

هكذا كان يفعل دائماً فكنا جنوداً في معسكر الجهاد ولخدمة الإيمان من خلال رسائل النور.

لكل عصر مجدده

في عام 1953 ذهبت لزيارة بديع الزمان في قونيا، وجلست عنده فسرّته زيارتي له وانشرح كثيراً لاستمراري في المدرسة الدينية وقال: «إني أعتبر هذه المدارس كالمدارس المباركة في العصور السابقة». ثم قال: «لو كان مولانا «جلال الدين الرومي» في هذا العصر لكتب رسائل النور ولو كنت أنا في ذلك العصر لكتبت «المثنوي». ذلك لأن خدمة الإيمان والقرآن في عصره كانت على ذلك النمط (أي بالمثنوي) وأما الآن فإن الخدمة على منهج رسائل النور.

ثم أفهمني بعلو شأن رسائل النور وكيف أن الخطط المرسومة ضد الإسلام من قبل الشيوعية والصهيونية قد دحضتها رسائل النور. ثم استمر بالقول: إن مجابهتهم والتصدي لهم أو حتى النقاش معهم لا يكون إلا بقراءة رسائل النور، فالرسالة الواحدة تقابل آلاف الخطط الخفية ضد الإسلام حيث إنها تخاطب جميع الطبقات ابتداءً من الأمي وانتهاء إلى الفيلسوف. فالحقائق التي فهمتموها من الأمثلة التي تسوقها رسائل النور تكفيكم. كالذي يدخل بستاناً مزدهراً بالتفاح يكفيه ما تصل إليه يده أما الذي لاتصل إليه يده فذلك من حصة طويلي القامة. فالذي لا يستوعب رسائل النور عليه ألّا ييأس من عدم فهمها، فإنني أيضاً محتاج إلى رسائل النور مثلكم فكلما أقرأها مرة بعد مرة آخذ قسطاً من درسي وأفهم أكثر.

أنا «لا شيء»

في الوقت الذي كان كتاب «تاريخ حياة الأستاذ» أثناء الطبع صمم الأخ «عبد النور» غلاف الكتاب وهو عبارة عن صورة الأستاذ يضع الحجر الأساس لجامع توغاي في إسبارطة، فذهبت إلى زيارة الأستاذ وفي يدي تصميم الغلاف. فسأل الأستاذ: ماذا بيدك؟ قلت: غلاف كتاب تاريخ الحياة يا أستاذي وقد صممه الأخ عبدالنور.

وما إن رأى الأستاذ الصورة حتى غضب غضباً شديداً وقال: «ما هذه الصورة؟ أنتم تهتمون بشخصيتي أكثر مما أستحق، فأنا أعد الاهتمام والاحترام لشخصي إهانة لي، لأنكم بذلك تتعلقون بي وليس برسائل النور -المرتبطة بالقرآن الكريم- فأنا لا أحب نفسي… إنني لا شيء، أنا عدم، فلا تنتظروا مني شيئاً من الخوارق»… وبعد ذلك مزق الصورة المرسومة على الغلاف ورماها في سلة المهملات.

الباب المفتوح

في أحد الأيام، والأستاذ جالس معنا، تكلم عن كيفية أعمال طلاب النور ونوعيتها وعن خدمتهم وعددهم وكميتهم، وعقّب كلامه قائلاً: «أخي ليس هناك إنسان لا يفتح الله قلبه للإسلام، فعلى الذين يعملون في خدمة الإسلام أن يكونوا نابهين واعين، إذ الإنسان يشبه قصراً ذا مائة باب، ولا بد أن هناك باباً يدخل منه إلى ذلك القصر، ثم تفتح الأبواب كلها. بيد أن منافقي آسيا وزنادقة أوروبا منذ ألف سنة يعملون بالمكر والدسائس حتى أعموا عيون أبناء هذا الوطن وحجروا على عقولهم، فصدوا تسعةً وتسعين باباً أمام الإسلام إلا باب الفطرة فهو مفتوح دائماً. فالمؤمن بفراسته يمكنه أن يكشف الباب المفتوح، وعند الدخول من هذا الباب سوف تفتح الأبواب المسدودة الأخرى لأجل الإسلام. فإذا ما غذّي الإنسان بموازين رسائل النور الملائمة لفطرته، ولم يستعجل الأمور وأخذ بالإخلاص وتمسك به فسينشرح بإذن الله قلب الشخص المعادي للإسلام. أما إذا ما بنى الإنسان عمله على الاستعجال، ومناقشة الأمور الجانبية واتهام الشخص المقابل، فهذا يعني أنه يتوجه إلى الأبواب المسدودة فيتسبب في غلق الباب المفتوح كذلك.

إن رسائل النور تهتم بالمحاكمات العقلية، وأخذ الأمور بالمسلمات المنطقية والفطرية، ثم تأخذ بيد القارئ إلى دائرة الإسلام الفسيحة.

وعلى غرار هذا الكلام كان الأستاذ يحثنا ويشوقنا ويقينا من الشطط لنسعى مخلصين في أعمالنا ونخدم القرآن والإيمان.

الطالب الأمثل في خدمة القرآن

أصيب الأخ زبير بمرض شديد ذات يوم حتى لم يطق الاشتراك في الدرس، فطلب منا أن نراعيه ونساعده. فدخلنا إلى الأستاذ -أنا والأخ صونغور- لتلقي الدرس منه، فسأل الأستاذ عن الأخ زبير: «أين هو؟» فأردنا أن نكتم مرضه عنه ونبين حجة أخرى بأنه ذهب إلى السوق! إلا أننا لم نوفق إلى إقناع الأستاذ بهذه الحجة. فغضب الأستاذ وقال: «لا لن أدرّس درساً ما لم يحضر زبير، اذهبوا إليه وايتوا به حيثما كان». وعندما جئناه بزبير غضب غضباً شديداً وقال: «كنت أظن أن زبيراً إذا قُطع رأسه -وليس إصبعه- فإن جسده يأتي مهرولاً بلا رأس يردد «رسائل النور.. رسائل النور».. لقد خيّب أملي بمرض مسّ إصبعه. إني أريد طالباً لا يهتم بشيء ولو قطعت يده كاملة وليست إصبعه. فلن تكون هذه الأمور -وأمثالها- حجة للتقاعس عن هذه الدعوة المقدسة دعوة القرآن الكريم. إن «سعيداً» لم يتراجع قط عن التضحية برأسه في سبيل دعوة الحق بل ضحى بكل ما لديه لرسائل النور. يتطلب رسائل النور طلاباً يفدونها بكل شئ في سبيل إعلاء كلمة الله.

وفي هذه الأثناء خطر إلى قلبي – ما أعجب أمركم يا أستاذي! إنكم تعاتبون الأخ زبيرا بهذا العتاب المر وهو مَن هو في التضحية والفداء… إذن لم تجد رسائل النور لحد الآن طالباً لها. فتوجه الأستاذ نحوي مباشرة وقال: «لقد وجدنا أنا ورسائل النور طالبنا المخلص».

نعم، كان الأستاذ يريد أن يرشد طلابه في شخص زبير.

وكان الأستاذ بنفسه يتابع مراحل الطبع وينشغل مع ما ألف حول رسائل النور وكان يكلف زبير بقراءة الجرائد ليقرأها له. وكان يبحث معه الموضوعات الاجتماعية، فعلاقة الأستاذ مع زبير كانت تختلف تماماً عن علاقته معنا.

الكمية تخدع

كان الأستاذ يطلب منا دائماً أن نكون صادقين وصبورين ومضحين وثابتين في الخدمة القرآنية. قال لي ذات مرة: «يا ترى كم عدد الطلاب الذين يقرؤون رسائل النور في مدرستكم؟» فأجبته: «سبعون طالباً». فقال: «يا للعجب، كنت أظن أن في تلك المدرسة طالباً واحداً يقرأ رسائل النور ولكنك تقول بأنهم سبعون شخصاً!»… ومضى قائلاً: «أخي! إن الكمية دائماً تخدع الإنسان، ولكن الأهم هو النوعية، فلئن أصبحتَ وسيلة لتعريف رسائل النور إلى شخصين اثنين يبحثان بفطرتهما عن رسائل النور، وكنتَ سبباً لإنقاذ إيمانهما فقد أنجزت وظيفتك طوال حياتك الدراسية، فالإخلاص ليس في الكمية بل في النوعية، وهذه هي الخدمة القرآنية.. ثم حدثتْ أحداث لم يبق منهم فعلاً إلّا طالب واحد..!»

بعد هذا التقيت الأستاذ في إسبارطة وقال لي: «لا تعط الرسالة لأي شخص كان إلّا بعد معرفته معرفة جيدة، فكما لا يُعطَى الحصانُ اللحمَ فلا يُعطَى الأسدُ العشب. بل أعط الحصان العشب والأسد اللحم، فإن لم يطلب منك أحد رسائل النور عدة مرات فلا تعطها له، فنحن لسنا ببائعي كتب، بل نعطي الرسالة من يشعر بالحاجة الماسة إليها، والمتلهفَ لها».

هكذا كان الأستاذ ينبهنا دائماً على الأخذ بالحيطة والحذر في مثل هذه الأمور.

الإيمان أولاً

يروي الأستاذ «علي أوزك»: «عندما قدمت إلى إسطنبول من مصر وأنا مازلت طالباً في الأزهر الشريف، استفسرت عن الأستاذ النُّورْسِيّ، فوجدته ساكناً في منطقة «الفاتح» في بيت خشبيّ قديم، ولدى زيارتي له في غرفته رأيته متمدداً على فراشه -من المرض- سلمت عليه، فرد السلام، ولكن حينما أخبرته بأن الشيخ مصطفى صبري  يخصك بالسلام، جلس معتدلاً وقال بتقدير وإكبار:

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وماذا يقول الأستاذ مصطفى صبري؟

– سيدي الأستاذ يسأل الشيخ مصطفى صبري عن عدد طلابكم!

– لي خمسمائة ألف طالب وخادم للقرآن الكريم!

– يقول الشيخ مصطفى صبري.. إذن ماذا ينتظر؟ ولماذا لا يبدأ بجهاد إسلامي مع هذا العدد من طلابه؟

– بلّغ سلامي له أولا، ثم قل له: «إن دعوتنا هي الإيمان، والجهاد يلي الإيمان، وإن زماننا هذا هو زمان خدمة الإيمان ووظيفتنا هي الإيمان وخدمتنا تنحصر في الإيمان..».

ثم تكلم بإسهاب عن موضوعات إيمانية، وعن كيفية القيام بخدمة الإيمان، وعندما أردت المغادرة قام ليودعني فقبلت يده وودعته.

ولما رجعت إلى مصر، زرت الشيخ مصطفى صبري، وكان طريح الفراش، وقد أنهكه المرض وأدركته الشيخوخة، حدثته عما دار بيني وبين الأستاذ النُّورْسِيّ في تركيا، فاستمع لي جيداً. ثم قال: «حقاً إن الأستاذ النُّورْسِيّ هو المحق. نعم، إن ما قاله صدق وصواب، فقد وفقه الله في مسعاه، أما نحن، فقد أخطأنا، حيث ثبت هو في البلاد ونحن غادرناها».

وهكذا استصوب مصطفى صبري عمل بديع الزمان وقوله.

كرامة الحقائق الإيمانية

لقد بدأتُ أفهم سبب حدوث كرامات لبديع الزمان من خلال الحوادث التي مرت.

فالسبب الأول هو أن بديع الزمان كان خادماً للإسلام وفي ظروف صعبة وعصيبة جداً وتحت شروط صارمة لا تسمح لخدمة الإسلام، بل يمكن القول إنها ظروف يستحيل فيها العمل للإسلام. ولكي تستمر وتدوم هذه الخدمة فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تظهر على يده هذه الكرامات.

أما السبب الثاني فهو أنّ تعلّم الإسلام في تركيا أصبح غير ممكن أو مستحيلاً «طوال ربع قرن اعتباراً من العشرينات إلى سنة 1950». وعدم التعلم هذا يؤدي حتماً إلى انعدام الحياة المعنوية. فحقاً إن أهل الضلالة في تلك الظروف كانوا يحقرون ويستهينون بالإسلام والمسلمين. فشخصية كبديع الزمان وهو يعاني الغربة والشيخوخة والفقر إن لم تكن له كرامات فمن ذا يرتبط به ولماذا؟

لذا ترى الأشخاص الذين ارتبطوا به برباط وثيق في بداية الأمر هم في الأغلب قد جذبتهم هذه الكرامات التي ساقها الله على يده. فلذلك ترى أن قسماً من طلاب النور قد تركوا بيوتهم وأعمالهم، وأخذوا على عاتقهم حفظ الإيمان ثقة ببديع الزمان وما يقوم به من أعمال من دون أن يهتموا ماذا سيصبح بمصيرهم، فذهبوا معه إلى المحاكم وإلى السجون دون أن يعلموا لماذا، وكيف، وأين؟..

فإذا نظرنا إلى التاريخ الحديث فنادراً ما نرى أشخاصاً محظوظين كبديع الزمان تقتدي به جموع غفيرة وهو يتقدمهم في زمن المستحيلات. وهنا أحب أن أوضح هذه الحقيقة أيضاً فأقول:

إن الحقائق الإيمانية التي تطرحها رسائل النور من ضرب الأمثال والأدلة الثابتة تؤثر على الإنسان بدرجة الكرامات، فأنا شخصياً كنت أبحث منذ سنوات طويلة عن جواب على بعض الأسئلة التي كانت تدور في ذهني فما استطعت أن أجدها في أي مكان، وأخيراً وجدتها في رسائل النور بشكل واضح لا غبار عليه ولا ضباب. وإذا نظرنا الآن إلى تاريخ حياة بديع الزمان نرى أن حياته وأسلوب عيشه هي بحد ذاتها كرامة. فقد ترك أهله وبيته وكل ما يمت بصلة إلى نفسه ومنفعته الشخصية، وكانت المشنقة أمام عينيه دائماً فأمضى شطراً طويلاً من حياته المديدة في السجون والمَنافي لأجل قول الحق وتفهيم الحقائق الإيمانية للناس. أما أنا فإن السبب الأساس الذي دفعني إلى جانب بديع الزمان وقراءة رسائل النور هو أنني كنت أقول: «لماذا يتجول هؤلاء السكيرون والمخمورون ولاعبو القمار بكل راحة واطمئنان وحرية بينما يظل خدام الإيمان والقرآن كبديع الزمان في السجون ويقضي حياته كلها هناك؟ فإذن يتحتم عليّ أن أضع يدي بيده لأساعده بكل ما أستطيع مساعدته ومساندته».

ففي عام 1954-1955 كنت أقوم بنشر رسائل النور بل حتى تلك التي أعجز عن قراءتها فالذين كنت أعطيهم من هذه الرسائل يقولون لي: «عمّ تبحث هذه الكتب؟» فأقول لهم: «أنتم معلمون وعلماء فيمكنكم قراءتها والوقوف عليها، أما أنا فلا أستطيع القراءة. ولكني سأحاول التعلم، فبديع الزمان خادم الإسلام في السجن الآن ونحن نقوم بمؤازرته. فاقرؤوا أنتم واشرحوها لنا». وقد كانوا بدورهم يشرحون لي ما كتبه الأستاذ، وأنا يغمرني الفرح والسرور.

قبلت الهدية ولكن..

ذهبت إلى زيارة الأستاذ سنة 1953. وسألني عن الشيخ طاهر (وهو من مدينة بتليس) فأجبته أنه قد ارتحل إلى الآخرة. فقام الأستاذ من فراشه وأصلح من هندامه واستعد للدعاء. وقال: «اللهم أسعده برحمتك، إنه كان يجمع مؤلفاتي عندما كان الناس ينفرون منها. إنه حافظ عليها بإخلاص». ثم التفت إليّ وقال: «أرجو أن تكتب إلى أهله برقية عزاء باسمي حالما تصل إلى هناك، وتبين فيها مشاركتي لأحزانهم».

وفي زيارة أخرى، عندما كان الأستاذ في فندق «آق شهر» أخذت معي زوجاً من الجوارب من صنع مدينة «بتليس» هدية للأستاذ. فقلت له: «أستاذي! أرجو أن تقبلها مني هدية متواضعة، فهي من مدينة «بتليس»! فأخذها بيده، ثم قال: لقد قبلت هديتك وأخذتها، ولكن ألبسها أنت بدلاً عني.

* * *


[1]  ذكريات عن سعيد النورسي ص74. يذكر الأستاذ في «الكلمات، الكلمة الثانية والعشرون الآتي: لقد أحصيتُ ذات يوم عناقيد ساق نحيفة لعنب متسلق -بغلظ إصبعين- تلك العناقيد التي هي معجزات الرحيم ذي الجمال في بستان كرمه. فكانت مائة وخمسة وخمسين عنقوداً. وأحصيتُ حبّات عنقود واحد منها فكانت مائة وعشرين حبة. فتأملت وقلت: لو كانت هذه الساق الهزيلة خزانة ماء معسّل، وكانت تعطي ماءً باستمرار لما كانت تكفي أمام لفح الحرارة ما ترضعه لمئاتِ الحبات المملوءة من شراب سكر الرحمة. والحال أنها قد لا تنال إلّا رطوبة ضئيلة جداً، فيلزم أن يكون القائم بهذا العمل قادراً على كل شيء. فـ«سبحان من تَحيَّرُ في صنعه العقول». ويذكر في الكلمة التاسعة والعشرون منها إحصاءه لعدد أغصان شجرة اللوز وعدد فروعها بل حتى عدد ما في أزاهيرها من خيوط.