أيها الغافل! ألَا تتلوعليك هذه الحواشي الدقيقة، والكتب الرقيقة الموجودة في بعض الحروف الكبيرة أنك موزون بين موازين.. فَتَنَبَّهْ وأقِمْ الوزن بالقسط.. والحال أنك تلهوكمجنون بين مجانين، فتتبلّه وتخسر الميزان بالقسط.

وثالثا: لابد أن تلقّنك هذه الرؤية التوكلَ والاعتماد بأن من ترجوه لكل شيء وتخافه دائما، في نهاية القرب إليك في عينِ نهايةِ بُعدك عنه. يتصرف فيك وفيما حواليك بقدرته التي يتساوى بالنسبة إليها الأصغرُ والأكبر، والأقلُّ والأكثر، والأقرب والأبعد؛ لا تكلُّفَ ولا معالجةَ، ولا مباشرةَ اختلاطٍ في أفاعيلها بالحدس الشهودي. أفلا تقرأ عليك هذه الحقيقة أنْ: لا تخف ولا تحزن ولا تتوحش؛ إذ أينما كنتَ فهناك مُلكُه، وأينما توجهتَ فَثَمَّ وجهُه، وأنت في وطنك، ولوفي بطن الأرض. وأنت تحت نظره، ولوفي جوف العدم. تأخذك بإذنه وأمره الأيادي الرحيمةُ الكريمة الحكيمة من حال إلى حال، وطور إلى طور. لا تخرج من يدٍ إلّا وتسابقَ لأخذك يدٌ أخرى بالانتظام، ولا تُصادف في سفرك غُولَ التصادف أصلا. ولا تُظلَم بالعدم ولا يظلمك الفناء بالإعدام. وكم من عدم تَرى خلفه -إن اقتحمته- أوتحته أوفيه خزينةً من خزائن الرحمة مشحونة مما «هويبقى» من جنس ما «هويفنى» في هذا الوجود.

ورابعا: لابد أن تفيدك رؤيةُ صغار الهوام وضوحُ برهان المخلوقية التامة، والمصنوعيةُ العامة في كل شيء للصانع الواحد. وتُكْبِرَ في نظرك هذا البرهانَ بدرجة صغرها، وتُظهر بدرجة خفاها؛ إذ من المحال أن يخرج المحاطُ من دائرة تصرف خالق المحيط، فخالقُهُ هوخالقُه بالضرورة القطعية. إلّا أن الصنعة فيها ابتلعت المادة وغمرتها، خلافا للمصنوعات الكبيرة.

اعلم أيها الغافل إن أكثر وسوستك إنما تنشا من أمور أربعة:

فأولا: من نسيانك نفسك إلى درجة تنقلب شعرةُ الأنانية حبلا غليظا؛ لأنك لمّا نسيت الله بالهوى، فأنساك نفسَك، تغلظتْ أنانيتُك فتفسّقت مِن قشرها المتشقق بكبرها.

وثانيا: من قياس كلِّ ذي حياة على نفسك.. مثلا: إذا رأيت حيوانا فمع أن المشهود حيوان معصوم، مأمون، ممنون؛ تفرضه إنسانا متفكرا محزونا متشتت الخواطر.. فتظن رقصه في فرح اضطرابا في ترح.

وثالثا: من قِصَر نظرك على تجلّي اسم الظاهر فقط، حتى تتوهم أن ما خرج عن دائرة هذا الاسم لا يرجع إلى دائرة مسمّاه. كلا، إن المسمى الذي له الأسماء الحسنى، كما أنه هوفوق الفوق، فهوفي أبطن البطون، فهوالأول والآخر والظاهر والباطن.

ورابعا: مِن طلب تجلي الأحدية التي هي أعلى التجليات، وأبعدُها وأخفاها، وأبسطها في أوسعِ وأكثرِ وأرقِّ ما انبسطت إليها الكثرةُ وانتشرت؛ إذ تنظر إلى حيوان مثلا: فتفنى فيه بالقياس النفسي المار آنفا، فتدخل معك فيه أنواعُ حسياتك. مثلا: تتصوره مثلك حزينا لفراق أليفهِ أووطنهِ، ومغموما بالتفكير في عاقبته ورزقه. فتتألم لمرض الشفقة من آلامه الموهومة، مع أنك لودخلت في عالمه بالتحقيق لما رأيت شيئا مما توهمتَه حينما دخلت فيه بالفرض من طريق القياس النفسي.

وكما أخطأتَ بهذا القياس قد تخطئ أعظمَ خطأً بقياس آخر، وهوأنك ترى النحلة -مثلا- مصنوعة، فتقيس بلا شعورٍ صانعَها الواجبَ الواحد الحكيم الذي لا كلفة ولا معالجة ولا مباشرة بالاختلاط ولا تَعَمُّلَ في أفاعيله؛ قياسا على الممكن المسكين الكثير الكثيف المقيد المحدود الذي أفاعيلُه لا تكون إلّا بالمباشرة والمخالطة والكلفة والمعالجة؛ فتتوهم من هذا القياس قربَك وقربَ تلك المصنوعة -التي يجول قلمُ الصانع عليها الآن بل دائما- من صانعها المتقدس المتنـزّه المتعالي. نعم، هوجلَّ شأنه من جانبه سبحانه قريبٌ.. لا أقربَ منه، أقربُ من كل قريب، وأقربُ من حبل الوريد.. لكن أنت، وهذا المصنوعُ، من جهتكما بعيدان ببعدٍ لا نهاية له، كمثل الزجاجة التي تمثلت فيها الشمسُ بالتجلي فتلألأت بشعاعها، وتنوّرت بضيائها، وتزيّنت بانكسار الألوان السبعة التي في ضيائها، وانفتح من ملكوت قلب الزجاجة إلى ذات الشمس منفَذٌ وسبيلٌ فيُرى من ظاهر مُلكها تمثالُ الشمس مع لوازمه في بطن وجه تلك الزجاجة بالقرب من يدك. لكن إن مددت يَدَك ما وصلتَ إلى شيء، ولومُدَّ يدك بسبعين بل بسبعمائة مثل قطر الأرض. حتى إن مَن في عقله بلاهةٌ وفي قلبه محبة للشمس، قد يريد أن يصل إلى محبوبته الشمسِ في كل ما تلألأت فيه، مستندا بهذا الوهم السطحي، والرؤية الظاهرة.

وكذا قد يَطلب من كل ما تمثل فيه الشمس تمامَ ما سمعَه أوعرفَه من أوصاف ذات الشمس، ولوازماتها التي لا يسعها إلا مجموع عالم منظومتها، فإن لم يجد الأوصاف في المثال في شيء، يشرع ينكر وجود الشمس في ذلك الشيء. بل قد ينكرها مطلقا.

والقلب مرآة الأحد الصمد، لكن له شعورُ احتساس بما تجلّى فيه، وعلاقةُ مفتونيةٍ بما تمَثل فيه، خلافا لسائر المرايا. كما بيّنه الإمام الربّاني رضي الله عنه. وبهذه الخاصية يستعد القلب لسعادات لا تُعد.

فإن قلت: ما السر في اقتران فعاليةٍ خارقة في مصنوعٍ ذي حياة، مع سكونةِ ما حوله كأنه لا شيء هناك، ومع عدم ترشح هذه الفعالية المدهشة من أرق لفائفه إلى الخارج، ولوبمقدار ذرة؟

قيل لك، كما قيل لي في قلبي: لوكانت الفعالية للأسباب الإمكانية، ومن أنفُس الأشياء؛ لَلَزِم أن يكون في كل حيوان فاعلٌ مستقل، له علم محيط، وفي كل ثمرة صانعٌ قدير له قدرةٌ مطلقةٌ تامةٌ بحيث لا يتعسر على تلك القدرة خلقُ الأرض بما فيها، فحينئذ يكون الترشح والتفشي والانتشار والطغيان من الضروريات، ولكنْ هذا الأمن والأمان المشهودان في الكون والمكان، وهذا السكون والسكوت المرئيان في غير عالم الإنسان، وهذا الانقياد والسِلم والسلام في هذا العالم في كل زمان ما هوإلّا لأن هذه الصنعة الموزونة، والصبغة المنظومة صنعة وصبغةٌ لمن ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس:82) ولمن يقول: ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا عِنْدَنَا خَزَٓائِنُهُۘ وَمَا نُنَزِّلُهُٓ اِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (الحجر:21). فنسبة فعلِك بيدك إلى فعلِكَ بأسرع الخيال، كنسبة الفعل بالخيال -لوأمكن- إلى فعلِ قدرة الباري بل لا مناسبة.

اعلم أيها السعيد المسكين المغرور! إنه ليس إليك منك من ألوف حاجاتك إلّا واحدٌ أوأقل. والباقي بالتمام مفوّضٌ باليقين إلى فاطرك الذي خلقك أولا كالفطير بقدرته، ثم فتح صورتَك في الماء بلطيف صُنعه، لتصير مرآةَ أسمائه.. وشقّ سمعك وبصرك برحمته، لتسمع الحقَّ وتعتبر بالخلق فتعرفَ الخالق.. وعلّق في كهف وجهك بعنايته لسانا لتذْكُره.. وأدرج في رأسك عقلا لتَعرفَه.. وأودع في صدرك جَنانا لتحبَّه.. ولَطَفَ بك في ظلمات الأحشاء، وتصرّف فيك بربوبيته كيف يشاء، وركّب في وجودك بحكمته هذه الحواسَّ بأنواعها، وهاتيك الأعضاء بأقسامها؛ لأجل إحساس جميع أنواع ثمرات نِعَمِهِ، ولإذاقة أقسام تجليات أسمائه.

فيا أيها الغافل المغرور! إلى كم تتهمه، وهوهذا وقد لطفَ بك هكذا. وتعتمد على ذرة اقتدارك الجزئي، فيفوّضك حينئذ إلى نفسك بسبب سوء اختيارك فتصير ظالما لنفسك لتحميلها ما لا طاقة لها به. وما بالك وما منعك أن تتوكل على مَن ناصيتُك بيده، وحاجاتُك راجعةٌ إليه حتى تُلقى -بالتسليم له- ما إليك على ما إليه. وتُلقيَ بالتوكلِ عليه نفسَك في سفينته الجارية بين طوفان الشؤون فتقول: ﴿بِسْمِ اللّٰهِ مَجْرٰۭۙيهَا وَمُرْسٰيهَا (هود:41) حتى تستويَ على الجُودي الإسلامي، وتستريحَ في ساحل السلامة. ألاَ ترى أن شمس الحياة قد اقترب أن تغترب! وأن قمر الوجود قد انخسف بالشَيب، واكفهرّ ببياض الهرم. وأن لا فائدة فيما سواه تعالى، بل كما أنه لا فائدة فيما سواه، إن لم يأذن به ففيه ضررٌ عظيم. فإن كان بدونه فكل شيء ضررٌ وعدو. وإن كان به فهومُغنٍ عن كل شيء، فلابد من التَرْكِ على الحالين:

أما في حالٍ، فلكونه ضررا محضا. وأما في حالٍ، فلتفويت طلب الغير غاية الغايات مع فوات نفسه.

نعم، وبدونه الألمُ أزيد من اللذة في كل لذة، بل اللذة بدونه ألمٌ مموّه… ﴿فَفِرُّٓوا اِلَى اللّٰهِ (الذاريات:50) فإن عنده من كل شيء -يفنى عندكم- ما هويبقى من نوع ذلك الشيء، فما يزول هنا ولا يدوم بدونه، يستمر هناك ويدوم به. مع أن الوقت ضيّق.. ألا ترى أنك في سكراتِ الموت، إذ تمامُ عمرك سُكر في سَكَرات، وسَفَر في سقطات. فارفع رأسك من الدنيا، كي ترى عند بارئك نعمةً أبدية، ورحمة سرمدية، ومحبة أزلية.

اعلم أيها المتفكر المتحير المتحري! إذا انتهى علمُك إلى شيء، أورأيت في شيء جهةً من عدم التناهي، فسبّح بحمده تعالى على قُربك إلى الحق؛ إذ المجهولية واللاتناهية عنوانان وعلامتان نُصبتا على حدود تصرّف ربوبيته المطلقة جل جلاله.

اعلم أيها الوهّام! إذا تهاجمتْ عليك الأوهامُ، فانظر يمينا لترى دوائر تصرف الخلاقية تتناظر متضايقةً، من دائرة المجرّة ومدار السيارات؛ متسلسلة إلى دائرة الجوهر الفرد ومدار الذرات. ومن خلق السماوات مسردةً، إلى خلق الثمرات. ومن إنشاء الأرض، إلى إيجاد الأرَضَة الآكلة للشجرة بتناظر وتشابهٍ وتساند. تدل على اتحاد القَلَم، ووحدةِ السكّة، وأنت في وسط مخروط الكائنات قائمٌ، حامل للأمانة، مقلَّد بالخلافة.

ثم انظر شمالا لترى النظام العام يأمر بالعدل في كل شيء، وترى الميزان التام ينهى عن الميل في كل شيء. ففي ذاك؛ ما هوكالبرق يطيِّر الأوهامَ. وفي هذا؛ ما هوكالرعد يطردُ الأحلامَ.

ثم انظر إليك، لترى نفسَك وجسمَك مصنوعَين من الرأس إلى القدم، من أصغر حُجيرة، إلى تمام بدنك الذي هوأيضا حُجيرة كبرى.

ثم انظر في قلبك، إلى فوقك، لترى بإيمانك أنوار نور الأنوار.. الذي خلق النور.. ونوّر النور.. وصوّر النور.. ونفذ أنوارُ تجلياته في كل شيء جلّ جلاله.

اعلم أن استعمال اسم التفضيل في بعض أسماء الله وصفاته وأفعاله كـ ﴿اَرْحَمُ الرَّاحِمينَ﴾ و﴿اَحْسَنُ الْخَالِقينَ﴾، و«الله أكبر» وغير ذلك لا ينافي محضَ التوحيد. إذ المراد تفضيل الموصوف بالحقيقة وبالذات، على الموصوف بالوهم وبالنظر الظاهري الأسبابي أوبالإمكانات العقلية. وكذا لا ينافي عزةَ الواحد القهار؛ إذ ليس المراد منه الموازنة بين صفاته أوفعله في نفس الأمر، وبين صفات المخلوقين وأفعالهم؛ لأن مجموع ما في المصنوعات من الكمال ظل مُفاضٌ بالنسبة إلى كماله سبحانه. فلا حقَّ للمجموع -من حيث المجموع- أن تكون له نسبةُ موازنةٍ معه، حتى يصير مفضَّلا عليه.. بل المراد الموازنةُ بين أثرِه الخاص على مفعولٍ خاص، وتأثّرِ المفعول من تأثيره الحقيقي فيه على درجة استعداده الخاص.. وبين أثر الوسائط الظاهرية في ذلك الشيء الخاص وتأثره منها. كما يُقال لنفر لا يعظّم إِلّا جاوِشَه ويحصُر شكرَه وحرمته عليه: يا هذا! السلطانُ أعظمُ وأرحم من جاوشك.. وليس المراد المفاضلة بين الجاوش والسلطان في نفس الأمر؛ إذ هوهزلٌ، ما هوبالجد. بل المراد المفاضلة بالنسبة إلى ذلك النفر، باعتبار درجة مربوطيته بالسلطان حقيقةً، وبالجاوش تبعا مع إذن السلطان.

وأما «أرأف من كل رؤوف»، و«أكرم من كل كريم»، و«أعز من كل عزيز» وأمثالها؛ فالمراد أن لواجتمع جميع رَأَفات جميع الكرماء على شخص، ما ساوت ما أصاب ذلك الشخص من بحر رحمته التي لانهاية لها. ففيها تفضيلٌ من أربعة أوجه: إذ المفضّل حقيقي وواحد وفي واحد وبواحد. والمفضَّل عليه اعتباري، وجماعة، وبجميع ما في أيديهم، لا يساوي حصة واحدة، في شخص واحد مما لا يتناهى من فيض الأحد الصمد.. وكما قال تعالى: ﴿اِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ (الحج:73).

اعلم أن لفظ «الله» يدل بالدلالة الالتزامية، على معاني كل الأسماء الحسنى وعلى جميع الأوصاف الكمالية. خلافا لسائر الأعلام الدالة على ذوات المسميات فقط.. بسرِّ أن صفات سائر الذوات ليست بلازمة للذوات، فلا يدل اسم الذات على صفتها، لا مطابقةً ولا تضمنا ولا التزاما. وأما الذات الأقدس؛ فلوجود اللزوم البيّن بينَه وبين صفاته وأسمائه.. وكذا لاستلزام الألوهية لها، يدل اسمه العَلَمي على جميع صفاته بالدلالة الالتزامية.. وكذا لفظ الإله، في سياق النفي.

إذا علمت هذا؛ فاعلم أن «لا إله إلا الله» يتضمن من التوحيد، ومن أحكام التوحيد عددَ الأسماء الحسنى.. فهذا الكلام الواحد يشتمل على ألوف كلام، كلُّ كلام مثل هذا الكلام مركّب من نفي وإثبات. ولأجل أن النفي يتوجه إلى فردٍ فردٍ بالاستغراق الفردي؛ يكون في الإثبات إثباتُ مجموعِ ما نُفيَ عن الغير، بالقاعدة المقررة في المنطق. فكأنه قيل: «لا خالق، ولا رازق، ولا قيّوم، ولا مالك، ولا فاطر، ولا قهار، إلّا الله».. وهكذا، فيمكن أن ينبسط هذا الكلام للذاكر المترقي في الأطوار والمراتب، على كل مراتبه وأحواله. فيكون التكرار كالتأكيد بالتأسيس.

اعلم أنك إذا عرفتَ أن الكلَّ منه تعالى وأذعنتَ به، لابد أن ترضى بما سرّ أوضرّ. وإن لم ترضَ، اضطررتَ إلى الغفلة. ومن هذا السر وُضِعَت الأسباب الظاهرية وغُطّيت الأعين بالغفلة؛ إذ ما من أحد إلّا وما يخالف هوسَه وهواه ومشتهاه ومناه -من حادثات الكائنات- أزيدُ وأكثر مما يوافقها.. إذ ما بُنيت الكائناتُ على هندسةِ هوسِ ذي الأماني، بل تجري الرياح بما لا تشتهي السُفن. فلولم ير المرءُ ذوالهوى هذه الأسبابَ، ولم يغفل عن مسبِّب الأسباب لتوجّه اعتراضُه الباطلُ وكراهتُه ونفرته وحدّتُه وغيظه الواهية إلى الفاطر الحكيم والمالك الكريم. فإذا رمى الغافلُ سهمَ اعتراضه أصاب الفلك أوالشيطان أوانعكس إلى رأسه ونفسه.

اعلم أنك إذا أمعنتَ النظر، تفطنت أن بُعدَ «الممكن» عن درجة الإيجاد، بمراتبَ غيرِ متناهية، بالنسبة إلى مقدار ما يُشاهد في ذلك المصنوع المستند إلى ذلك الاقتدار الغير المتناهي.

اعلم أن الدعاء على ثلاثة أقسام:

الأول: دعاء الإنسان، بهذا اللسان بالقول. وكذا الحيوانات الصائحات بألسنتها المخصوصة، في الحاجات المشعورة لهم.

والثاني: الدعاء بلسان الاحتياج، كدعاء جميع النباتات، والأشجار «لا سيما في الربيع». وكذا في كل الحيوانات في الحاجات الضرورية الغير المشعورة.

والثالث: الدعاء بلسان الاستعداد، كدعاء كل ما فيه نشوء ونماء، وتحوّل وتكمّل. فكما أنَّ ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه (الإسراء:44) كذلك إن من شيء إلّا ويدعوه، ويشكره بذاته وحاله دائما، كما قد يدعوبلسانه.

اعلم أن النواة قبل أن تتشجّر، والنطفة قبل أن تتبشّر، والبيضة قبل أن تتطيّر، والحَبَّة قبل أن تتسنبل، لابد أن تكون تحت تدبيرِ علمٍ تام نافذ وتربيةٍ، لتُساقَ مِن بين ما لا يُحَدّ من الطرق العقيمة المعوجّة إلى الصراط المستقيم المنتجَة. فما هوإلّا علمُ علام الغيوب الذي يصوِّر في الأرحام كيف يشاء، عالمُ الغيب: «غيبِ الماضي، والمستقبل» والشهادة «شهادة الحال الحاضر». فكأن كلا من النواة والنطفة والبيضة والحبة تذكرةٌ مختصرة استنسخت من «الكتاب المبين» من كتب القُدرة.. أوفهرستةٌ استُخرجت من «الإمام المبين» من كُتب العلم الأزلي ومكتوباته.. أودساتيرُ استُنبطت من «أم الكتاب» من كُتب القَدَر الأزلي، لاسيما من باب الميزان والنظام.. أوفذلكةُ أوامرَ متمثلة متمركزة ممتزجة تنـزلتْ من ربوبية القدير على كل شيء، العليم بكل شيء جلّ جلاله.

اعلم أن نظر المؤمن إلى المصنوعات حرفيٌ؛ إنما ينظر إليها لتدل على معنى في غيرها. وأما نظرُ الكافر إليها، فقصدي اسميٌ؛ لتدل على معنى في نفسها.

ففي كل مصنوع وجهان: وجه، ينظر إلى ذاته وصفاته الذاتية. ووجه، ينظر إلى صانعه، وإلى ما تجلى إليه من أسماء فاطره.. والوجه الثاني أوسع مجالا، وأكملُ مآلا؛ إذ كما أن كل حرف من كتاب يدل على نفسه بمقدار حرف وبوجهٍ واحد، ويدل على كاتبه بوجوه كثيرة، ويعرّف كاتبه ويصفه للناظر بمقدار كلمات كثيرة.. كذلك إن كل مصنوع الذي هوحرفٌ من كتاب القُدرة، يدلّ على وجوده ونفسه بمقدار جِرمه ونفسِه وبوجهٍ واحد، وهووجوده الصُوري. لكن يدل على نقّاشه الأزلي بوجوه متنوعة كثيرة، وينشد من أسمائه المتجلية على ذلك المصنوع، بمقدار قصيدة طويلة.

ثم إن من المقرر أن المعنى الحرفي، لا يُحكَم عليه بالأحكام القصدية، تصديقا وتكذيبا. ولا يستتبع اللوازم، إلّا بنظر ثانوي. فلهذا لا يتغلغل ذهنُ ناظره في دقائقه، إلّا إذا نظر قصدا، فحينئذ يصير الحرفُ اسما. بخلاف المعنى الاسمي.

فمن هذا السر ترى كتبَ الفلاسفة أحكَمَ فيما يعود إلى الكائنات في أنفسها، مع أنها أوهنُ من بيت العنكبوت فيما يعود إليها بالنسبة إلى صانعها. وكلام المتكلمين مثلا لا ينظر إلى المسائل الفلسفية والعلوم الكونية إلّا بالمعنى الحرفي التبعي والاستطرادي، وللاستدلال فقط.. حتى إنه يكفي لهم أن تكون الشمس سراجا، والأرض مهادا، والليل لباسا، والنهار معاشا، والقمر نورا، والجبال أوتادا أي بمشّاطيتها للهواء ومخزنيتها للماء والمعادن، وحمايتها للتراب عن التوحل، وتسكين غضب الأرض المتزلزلة بتنفسها فيها، ولا يكفي للفلسفي إلّا أن تكون الشمس مركزَ عالمِ منظومتها، ونارا عظيمة بدرجة تتطاير السيارات مع أرضنا حولها كالفَراش المبثوث. وهكذا، حتى لولم يطابق رأيُ المتكلمين الواقعَ، مع مطابقة الحس العمومي، والتعارف العام لما ضرَّهم، ولا استحقوا التكذيب. فلهذا يُرى آراؤهم بادي الرأي أضعفَ وأدنى طبقةً في المسائل الفلسفية، وأقوى من الحديد في أساسات المسائل الإلهية.

ومن هذا السر أيضا تصير الغلبةُ في الأكثر في الأوائل في الأولى لأهل الضلال، فيما يعود إلى الدنيا وإلى ظاهر هذه الحياة. إذ هم بجميع لطائفهم الساقطة إلى درجة نفوسهم، متوجهون قصدا وبالذات إلى الدنيا قائلون بأعمالهم: ﴿اِنْ هِيَ اِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا (الأنعام:29) ولكن العاقبة للمتقين الذين قيل لهم ولسيدهم: ﴿وَلَلْاٰخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْاُو۫لٰى (الضحى:4) ﴿وَمَا الْحَيٰوةُ الدُّنْيَٓا اِلَّا لَعِبٌ وَلَهوۜ وَلَلدَّارُ الْاٰخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذينَ يَتَّقُونَۜ اَفَلَا تَعْقِلُونَ (الأنعام:32) ﴿وَاِنَّ الدَّارَ الْاٰخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُۢ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت:64) فحسبنا الله ونعم الوكيل، فنعم المولى ونعم النصير.

اعلم أن عفوَه تعالى فضلٌ، وعذابَه عدلٌ؛ إذ كما أن من أكل سمًّا، فهومستحق للمرض بحكم عادة الله المستمرة. فإن لم يمرض، فهوفضل وكرامة من الله بخرق العادة.

نعم، مناسبة المعصية للعذاب قويةٌ بدرجة من القوة، حتى ضلّت فيها المعتزلة فأسندوا الشرَّ إلى غيره تعالى، وأوجبوا الجزاء عليه. واستلزامُ الشر للعذاب -بسر النظام العام- لا ينافي كمال الرحمة؛ إذ هذا الضرر الجزئي متصلٌ بأنبوب في سلسلةِ نظام محيط تدلت منه كالعناقيد خيراتٌ كثيرة. مع أن تركَ هذه الخيرات الكثيرة لمنع هذا الضرر الجزئي والشرِّ القليل ضررٌ كلي وشرٌ كثير، وهوينافي حكمةَ عدالة العدل الحكيم الكريم.

أيها الإنسان الظلوم الجهول! اتّق الشرَّ ما استطعت. وإلّا استحققت جزاءَ تركك مع جزاء تفويتك لنتيجةِ سائر الأسباب السابقة عليك، في سلسلة مبادي وجود النتيجة. إذ الشرُّ عدمٌ. وبعدم الجزء الآخر من العلة ينعدم المعلول. فيعود على الجزء الآخر كل ضررِ عدمِ المعلول. إلّا أن ثمرات الوجود لا تعود إليه إلا بمقدار حصته، إذ وجود الجزء ليس علةٌ لوجود الكل. فمن هنا يُرى كمال عفوه تعالى وكمال فضله؛ إذ يجزي بالشر مثلَه، وبالخير عشرةَ أمثاله. مع اقتضاء الاستحقاق الواقعي عكسَه. وكذا يُرى ظلمُ البشر بحكمهم بعكس الواقع.

اعلم أن الإنسان مبتلىً بالنسيان، وأسوأ النسيان نسيانُ نفسه. إلّا أن نسيان النفس إن كان في المعاملة والخدمة والسعي والتفكر فهوالضلال، وإن كان في النتائج والغايات فهوالكمال. فأهل الضلال وأهل الهدى متعاكسان في النسيان والتذكر؛ أما الضال فينسى نفسه عند النظر للعمل وتطبيقِ دساتير الوظيفة، بل يمدّ نظرَه إلى الآفاق لتطمين الأنانية المتفرعنة، وغرورِه المنبسط الذي تضيق عنه النفسُ. لكن يتذكر نفسه في كل شيء من الغايات فتيلا أونقيرا. حتى لا غاية عنده إلّا ما يعود إلى نفسه. وإن غاية الغايات في نظره حب ذاته.

وأما من زكّاها فيتذكر نفسَه قبل كل شيء عند السعي والسلوكِ في الحركة، أوالتفكر فكأن نفسه واحد قياسي ومبدأ مركزي لكل عملٍ وتفكر. لكن ينسَى نفسه في النتائج والأعراض والفوائد والمقاصد. حتى كأن نفسه فانية، وداخلة في لا شيء، أومملوكة خَدمت سيدَها بلذة الإخلاص، في وظيفة عائدة من كل وجه إلى السيد. فلا حقَّ لها في مقاضاة شيء، فما أعطى سيدُها لها تراه النفس من محض الفضل.

اعلم أن سر تساند المؤمنين في عباداتهم ودعواتِهم في جماعاتهم سرٌّ عظيم وأمر جسيم له شأن فخيم؛ إذ يصير به كلُّ فرد كالحجر المجصوص، في البناء المرصوص. يستفيد من إخوانه في الإيمان، بألوفِ ألفِ ألفِ ما يستفيد من عملِ نفسه. فإذا نظّمهم سلكُ الإيمان يصير كلٌّ لكلٍّ، وللكلِّ شفيعا وداعيا ومسترحما وراجيا ومادحا ومُزكيا. لاسيما لرئيسهم ورأسهم. فيتلذذ كلُّ فرد بسعاداتِ سائر إخوانه كتنعّم الأم الجائعة بلذة ولدها، والأخِ الشفيق بسعادة شقيقه. حتى يصيرُ هذا الإنسان المسكين الفاني مستعدا لعبوديةِ خلّاق الكائنات، وقبول السعادة الأبدية.

فانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فإذا تراه، وهويدعوبـ«يا أرحم الراحمين»، ترى الأمة كلهم يقولون: «اَللَّهُمَّ صل وسلم على عبدك وحبيبك محمد بحرِ أنوارك، ومعدن أسرارك، وناشر ذكرك وشكرك، ودلّال محاسن سلطنة ربوبيتك». فيزكّونه عند ربهم، ويحببونه إلى مَن أرسله رحمة لهم، ويؤيدون شفاعته. وكذا ينادون بلسان عجزهم المطلق وفقرهم المطلق، غناءَه -سبحانه- المطلق، في استغنائه الأكمل. وينادون جودَه المطلق في عزته الأجلّ. وينادون بلسان عبوديتهم المطلقة ربوبيتَه المطلقة. وبهذا التعاون العُلوي المعنوي يترقى الإنسان من أسفلِ سافلي الحقارة والصغر والعجز؛ إلى أعلى عليي الخلافة، وحملِ الأمانة وقابلية المُكَرَّمية بتسخير السماوات والأرض له.

اعلم أن من بَعُدَ عن شيء لا يرى كما يراه القريب منه، ولوكان البعيد أشد ذكاءً وأحدّ بصرا. فإذا تعارضا ترجّح القريب مطلقا. فالفلاسفة الأوروبائية المتغلغلون في المادية، تباعدوا بمراتب عديدة، ومسافات طويلة عن مقام الإسلام والإيمان والقرآن. فأعظمُ فلاسفتهم لا يساوي عاميًا يفهم بالإجمال مآل القرآن فقط.

هكذا شاهدتُ وهوالواقع. فلا تقل: مَن كشف خواص البرق والبخار كيف لا يفهم أسرارَ الحق وأنوارَ القرآن؟ نعم، ليس له، إذ عقلُه في عينه، والعينُ لا ترى ما يراه القلب والروح، لاسيما مع البُعد، ولاسيما عند موت القلب بانقلاب الغفلة إلى الطبيعة ﴿طَبَعَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْۚ (النحل:108).

اعلم أن من أعظم كُفران النِّعم، ومن أشد تكذيب الآلاء، عدمَ الشكر على ما عَمَّه وغيرَه كالسمع والبصر، أودام واستمر كالنور والنار، أوأحاط وطمّ كالهواء والماء؛ بل إنما يشكر الله على ما يخصّه من دون الناس، أويتجدد عليه، أويندر لندر الحاجة. مع أن الأعمَّ الدائم الأدوم هوالنعمة الأعظم الأتم. العموم يدل على كمال أهميتها، والدوامُ على غلوقيمتها.

اعلم أن من آياتِ أنه تعالى ﴿وَاَحْصٰى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (الجن:28) التساوي والتوازن والانتظام بين أعداد المتجاورات والمتقابلات والمتشابهات كالأصابع في الأيادي، والحبات في السنابل، والنواة في الثمرات، والأوراق في الأزهار.. فسبحان من أحصى كلَّ شيء عددا وأحاط بكل شيء علما.