590

إن هذه الأمة ذات التضحيات الجليلة قد أظهرت بطولةً فذةً في خدمة القرآن من صميم قلبها وروحها عبر ألفِ سنة، [الحديث عن الأمة هنا يُقصَدُ به الشعوب التركية منذ دخولها في الإسلام قبل نحو ألف عام؛ هـ ت] لكن على الرغم من ذلك سيَظهَر من أجيالها بعد خمسين سنة مَن سيشوِّهون ماضيها المشرق هذا أو يطمسونه، ونحن نعلم أن تزويدَ هذه الأجيال بحقائق مثل رسائل النور وإنقاذَها من السقوط المروِّع هو أعظم مهمةٍ وطنيةٍ وقومية؛ ولذلك فإننا نفكر في أبناء المستقبل لا في أبناء اليوم.

نعم أيها السادة، صحيحٌ أن رسائل النور تتوجه توجهًا خالصًا إلى الآخرة، وأن غايتَها إنقاذُ الإيمان ونيلُ مرضاة الله تعالى، وأن غاية تلاميذها العملُ لإنقاذ أنفسهم وإنقاذِ أبناء وطنهم من الإعدام الأبدي والسجن المؤبَّد الانفرادي، إلا أن لها بالدرجة الثانية خدمةً جليلةً تعود فائدتها للدنيا، وتُنقِذ هذا الوطن وأهله من مخاطر الفوضوية الهدَّامة، [الفوضوية مذهبٌ فكريٌّ سياسيٌّ يدعو إلى رفض كلِّ أشكال السلطة، وفي مقدمتها سلطة الدولة، ويسمى كذلك اللاسلطوية أو الأناركية؛ هـ ت] وتنقذ المساكين من أجيال المستقبل من مهاوي الضلالة المطلقة؛ ذلك أن المسلم لا يشبه غيرَه، فإنه إذا تخلى عن دينه وخرج على قيم الإسلام هَوى في الضلالة المطلقة، وأصبح فوضويًّا لا يمكن إدارته.

أجل، ففي الوقت الذي كان فيه خمسون بالمئة من الناس قد تلقَّوا تربيةً إسلاميةً أصيلة، وكان الخمسون بالمئة الآخَرون يُظهِرون إهمالًا وتحلُّلًا تجاه قيم الإسلام وأعراف الأمة، فكَّرتُ في احتمال أن يصبح تسعون بالمئة من الناس أتباعًا للنفس الأمّارة بعد خمسين سنة، فيقودوا البلاد والعباد نحو الفوضوية المدمِّرة، وبحثتُ عن حلٍّ لمواجهة هذه المصيبة، فمنعني ذلك من السياسة ومن الانشغال بأبناء هذا الزمان منعًا باتًّا قبل عشرين سنة، وكما كانت هذه هي حالي، فكذلك هي حال رسائل النور وتلاميذِها، فلقد قطعوا علاقتهم بأبناء هذا الزمان، فلا هم يواجهونهم ولا هم ينشغلون بهم أصلًا.