157

وبينما كنت أعدُّ نفسي أسعدَ إنسانٍ في الدنيا، إذْ نظرتُ ذات يومٍ في المرآة، فرأيتُ شيبًا يخالط شعري ولحيتي، وإذا بتلك اليقظة الروحية التي حصلتْ لي في جامع «كوسْتْروما» زمانَ الأَسْر تعودُ من جديد، فرُحْتُ أُدقِّق في الأحوال والأسباب التي تعلقتُ بها قلبيًّا وظننتُها مصدَر السعادة الدنيويَّة، فما دقَّقتُ في شيءٍ منها إلا وجدتُه واهيًا خدَّاعًا لا يستحقُّ التعلُّقَ به؛ وكنتُ لَقِيتُ في تلك الآونة خيانةً غيرَ متوقَّعةٍ وغدرًا لا يخطر بالبال من شخصٍ كنتُ أعدُّه أعزَّ الأصدقاء، فاعترتْني حالةُ انقباضٍ واستيحاشٍ من الحياة الدنيوية، وقلتُ لقلبي: أتُراني مخدوعًا تمامَ الخديعة؟! إنني أرى كثيرًا من الناس ينظرون إلى حالنا نظرَ الغِبطة، بينما هي حالٌ تدعو للرثاء من زاوية الحقيقة.. فهل جُنَّ هؤلاء الناس؟ أم أنا مَن جُنِنتُ فرأيتُ هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانين؟!

وعلى كلِّ حالٍ.. فإنني بهذه اليقظة الشديدة التي أحدثَتْها فيَّ الشيخوخةُ رأيتُ أوَّلَ ما رأيتُ فناءَ ما تعلَّقتُ به من أشياء زائلةٍ فانية، وتأمَّلتُ في نفسي فرأيتُها في منتهى العجز، فهَتَفَتْ روحي التي تَنشُد البقاء، والتي فُتِنَتْ بالفانيات إذْ توهَّمتْ فيها البقاء.. هَتَفَتْ بكلِّ قوتها قائلةً: ما دمتُ سأفنى جسدًا فأيُّ خيرٍ يُرجى من هذه الفانيات؟ وما دمتُ عاجزةً فماذا عساي أن أنتظر من هؤلاء العَجَزَة؟

وشرَعْتُ أبحث قائلًا: إنما يجدُ الدواءَ لدائي مَن هو قديرٌ أزليّ، باقٍ سرمديّ، وأخذتُ أبحث عن رجاءٍ وسُلوان، فراجعتُ أوَّلَ ما راجعتُ العلومَ التي حصَّلتُها في سالفِ عهدي، غير أني للأسف، كنتُ حتى ذلك الحين قد ملأتُ جعبتي -إلى جانب العلوم الإسلامية- بعلومٍ فلسفيَّةٍ ظننتُها بخطأٍ بالغٍ أصلَ التكمُّل ومَصدَرَ الثقافة والتنوُّر، والحالُ أن هذه المسائل الفلسفيَّة كثيرًا ما لوَّثَثْ روحي وأعاقتْ رُقِيِّيَ المعنويَّ؛ وبينما أنا في تلك الحال إذا بالحكمة القدسية التي جاء بها القرآن الحكيم تهُبُّ لنجدتي رحمةً من الله وكرمًا، فغسلتْ عن روحي أدرانَ تلك المسائل، وطهَّرَتْها منها كما بَيَّنّا في كثيرٍ من الرسائل.