418

ثم إنه قد حافظ طَوالَ حياته على عزَّته العلمية أيَّما محافظة، فجعل أهم دستورٍ له في حياته ألَّا يعرض فاقته على أحد، فأستاذنا الذي صرف وجهه عن الدنيا وإنْ هي أقبلتْ عليه، محافظٌ أبدًا على تَعَفُّفه ونزاهته بإحالة أمر معاشِه إلى عناية الله سبحانه، فلا يأخذ صدقةً ولا زكاةً ولا هدية، ونعلم يقينًا أنه حين كان في «قسطمونو» لم يقبل هديةً بأيِّ صورةٍ جاءت، حتى لقد باع لحافَه ليسدد إيجار منزله.

ثم إنه لا يُسَرُّ بالتكلُّف والتعظُّم، بل يأمر طلابه بالتحرر من قيود التكلُّف، ويبين ذلك بقوله: إن التكلُّف سيِّئٌ شرعًا وحكمةً، لأن حب التكلف يدفع المرء إلى تجاوز حد المعروف، ولا ينجو المتكلف من الوقوع في التظاهر والتفاخر مع الإعجاب بالنفس، ومن التلبُّس برياءٍ باردٍ مؤقت، والحال أن كِلا الأمرين يُخِلَّان بالإخلاص.

وأستاذنا كذلك متواضع غاية التواضع، يَحذَر أشد الحذر من حب الشهرة ودواعي التميُّز والتفوق، فمشربه الصافي الخاص أسمى من تلك الأمور التي تضايق الروح.. يعامل الجميع، لا سيما كبارَ السن والأطفالَ والفقراء، بخالص الرفق والملاطفة والأُخُوَّة.. ويشرِق نور الوقار من مُحيَّاه المبارك، وتمتزج فيه البشاشة بالمهابة، فترى فيه ملامح الأنس والألفة مع الهيبة.

ومع أنه دائم التبسُّم، إلا أنه تظهر عليه علائم المهابة والجلال بمقتضى بعض التجليات، فينعقد لسان مَن يريد التكلم بحضرته فلا يُفْهَم مرادُ قوله، ولقد شاهدنا نحن العاجزين كثيرًا من هذه الحالات.

وهو في العادة قليل الكلام، يوجز القول في كلامٍ جامعٍ شاملٍ بليغٍ كأنه دستور حكمة.. لا يذم أحدًا، ولا يسمح بغيبة أحدٍ في مجلسه، بل لا يُسرُّ بذلك أصلًا، وإنما يستر العيوب والزلات والأخطاء، وقد بلغ من حسن الظن أنه يقول لمن نقل إليه كلامًا قِيْلَ بحقه: «حاشا، هذا كذب، فذلك الفاضل لا يقول مثل هذا الكلام».