419

ولأستاذنا اختصاصٌ ورسوخ بمجاهدة النفس، فليس ممن يخدم حظوظه النفسية أصلًا، بل هو متقَلِلٌ في مأكله ونومه فلا يأكل من الطعام إلا اليسير الذي لا يكاد يكفي شخصًا واحدًا، ويقوم ليله متعبِّدًا حتى الصباح بخشوعٍ عجيب، ولا يتخلَّف عن عادته هذه في صيفٍ ولا شتاء، ولا يترك شيئًا من تهجده أو مناجاته أو أوراده، حتى إنه أَلَمَّ به مرةً مرضٌ شديدٌ في شهر رمضان، فلم يحمله ذلك على ترك مجاهداته في العبودية، بل واصَلَ الصيامَ أيامًا لم يذق فيها طعامًا إلا لقيماتٍ يسيرة.

قال عنه جيرانه: «كنا على مدى ثماني سنوات نسمع صوت مناجاة أستاذكم بصداه الحزين الملتاع يتردد كلَّ مرةٍ في موعده من الليل حتى الصباح، فتتملَّكنا الحيرة إزاء هذه المجاهدات الدائمة التي لا تَفتُر في صيفٍ ولا في شتاء».

وكان مراعيًا أتمَّ الرعاية للطهارة والنظافة الشرعية، محافظًا على وضوئه في كل حين، ولا ينفق وقته المبارك سدًى، بل هو إما مشغولٌ بتأليف رسائل النور وتصحيح نُسَخها، وإما قائمٌ في محراب العبودية يردِّد الأدعية والمناجاة، وإما مستغرقٌ في بحر التفكُّر في الآلاء الإلهية.

كنا نذهب معه إلى جبلٍ بعيدٍ عن المدينة تكسوه الغابات حيث يقضي معظم الصيف هناك، فكان وهو في الطريق يشغل وقته بوظيفة، فيصحح رسائل النور، ويُرعي انتباهَه في الوقت نفسه إلى ما يقرؤه طلابه العاجزون من رسائل، فينبِّههم إلى أخطائهم، وربما أعطى درسًا من أحد مؤلفاته القديمة.

أجل، وإننا لنعترف بأن عذوبة منطقه وحسن معاشرته كانا يمنحاننا من المدد ما لو ظل المرء على تلك الحال من الصباح حتى المساء يتلقَّى درسه أو يسايره في الطريق ما اعتراه شيءٌ من الملل.

وكان يقدِّم خدمةَ رسائل النور على ما سواها، ويقول: «لم أطالع كتابًا منذ عشرين سنة، وما وُجِد بحوزتي كتابٌ سوى القرآنِ الحكيم ورسائلِ النور، فرسائل النور تكفي».