103

فوا أسفاه!! إن العناصر والأعراق عندنا مختلطةٌ كالهواء، لم تمتزج كالماء؛ لكنها ستمتزجُ بفعلِ كهرباءِ الحقائق الإسلامية، وتُوَلِّد القوةَ بحرارة ضياء المعارف الإسلامية، لتُوْلَد عدالةٌ معتدلةُ المزاج إن شاء الله.

عاشت المَشْرُوطِيّة المشروعة، وسَلِمتِ الحرية النيِّرة المتلقِّيةُ درسَها التامَّ من تربية الحقيقة الشرعية.

غريب زمان الاستبداد، بديع زمان المَشْرُوطِيّة، بدعة هذا الزمان

سعيد النُّورْسِيّ

***

لم يمكث بعد ذلك طويلًا في اسطنبول، بل غادرها متوجهًا إلى «وان»، وبينما هو في طريقه إليها عبْر «باطوم» مرَّ بـ«تفليس» وصعِد إلى «تل الشيخ صنعان» هناك، وبينما كان يتأمَّل فيما حوله، إذا بشرطيٍّ روسيٍّ يأتيه فيسأله:

* لماذا تمعِن النظر هكذا؟

— إنني أُخطط لمدرستي.

* من أين أنت؟

— من «بِتْليس».

* لكنْ هنا «تفليس»!!

— إن «بِتْليس» و«تِفليس» شقيقتان.

* ماذا تقصد؟

— إن ثمّة ثلاثة أنوار قد أخذت تُشْرِق تباعًا في آسيا والعالم الإسلامي، وثمّة ثلاثُ ظُلُمات مطبقة عندكم ستنقشع وتتبدَّد، فيتمزَّق على إثرها حجابُ الاستبداد هذا وينحسر، وسآتي عندئذٍ إلى هنا فأنشئ مدرستي.

* هيهات!! . . إني لَأَعْجَبُ من آمالِك هذه!!

— وأنا أعجَبُ من عقلك! أتَظُنُّ أنْ سيدومُ هذا الشتاءُ؟!! إن بعد كلِّ شتاءٍ ربيعًا، وبعدَ كلِّ ليلٍ نهارًا.

* إن الإسلام قد تمزَّق إرَبًا إرَبًا!!

— لقد ذهب أبناؤه يحصِّلون العلوم، فها هي الهند ابنُ الإسلام المتحفِّز يَجِدُّ في كُلِّيّة الإنكليز، وها هي مصر ابنُ الإسلام الذكي يتلقَّى الدروس في كُلِّيّة الإدارة الإنكليزية، وتلك القوقازُ وأرضُ التُّرك ابنا العالم الاسلامي المغواران، يتلقيان الدروس في الكلية الحربية الروسية.. إلى آخر ذلك.

يا هذا.. إن أبناء الحَسَب والمجد هؤلاء بعد أن يَحصُلوا على شهاداتهم، سيتولى كلٌّ منهم قارةً، وسيرفعون رايةَ أبيهم العادل، رايةَ الإسلام المهيبة خفاقةً في آفاق الكمالات، وسيُعلنون بحماية القدَرِ الأزلي -رغم أنف الزمان- سرَّ الحكمةِ الأزلية في نوع بني البشر.

***

وفور وصوله إلى «وان»، شَرَعَ بديع الزمان يطوف على العشائر في مهمةٍ إرشاديةٍ يقدِّم فيها الدروس العلمية والمدنية والاجتماعية، وقد نشر بهذا الخصوص كتابًا رتَّبه بطريقة السؤال والجواب وسمَّاه: «المناظرات»؛ وكانت محاوراته مع أهل السياسة من جهةٍ، ومع العشائر وطبقات الناس من جهةٍ أخرى مثارَ اهتمام بلا ريب، وإنه ليتبدَّى في كلِّ ما سبق أن غايتَه العظمى والوحيدة كانت نشرَ نور الإسلام وحقائق القرآن في العالم، وأنه أدى وظيفتَه أتمَّ أداءٍ في جميع حياته: دَلَّالَ القرآن الكريم.